العراق في مهب العواصف
مقالات
نوري بيخالي
بين التماسك والتشتت
يقف العراق الآن على مفترق طرق حاسم، حيث تتزاید الصراعات وتتشابك التحديات الداخلية مع التعقيدات الإقليمية والدولية في منطقة تتسارع فيها الأحداث وتشهد تحولات جيوسياسية قد لم تكن في الحسبان يوماً. في خضم هذه التحولات وبالرغم من التحديات الجمة التي تحيط به داخلیا وإقليمياً ودولياً، يحافظ العراق حالياً على درجة من الاستقرار السياسي النسبي، لکن هذە النسبة لا تفي لکي تمكن الحكومة من الحفاظ على التماسك الداخلي وبالتالي یبقی هذا التماسک الهش معرضا للتشتت وقد یؤدي الی ما لا یحمد عقباه في المستقبل البعید.
مثلث الأزمات
یعاني العراق من أزمات حادة جعلتە أمام خطر محتوم، خطر یهدد إستقرارە السیاسي النسبي وتنوعە المکوناتي ونسیجە الإجتماعي والذي بدورە یضع ماهیة الدولة وسیادتها التي تشوبها الشبهات، أمام أسئلة جدیة تتطلب الوقف عندها، وأهم هذە الأزمات هي:
أولاً: ثقة منكسرة
إستشراء الفساد، إستغلال القوة والنفوذ من أجل بسط السیطرة علی المفاصل الحساسة في الدولة، ضعف الخدمات العامة وتردي البنية التحتية نتیجة عملیة التهریب التي استهدفت و تستهدف ثروات البلد الباطنیة والفوقیة ادت الی تراجع کبیر في ثقة الشارع بالمؤسسات، وهذا ما نراە بکل وضوح في إعلاء صوت وصراخ المواطن في مدن الوسط والجنوب بسبب نقص الخدمات وسبل العيش الكريم وفي تزايد الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاح.
ثانياً: إختلال التوازنات
نتیجة لتدخل القوى الإقليمية وتأثیرها المباشر على القرار السياسي الداخلي والتحدي في إدارة العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وإقليم كردستان، وکذلک بسبب وجود نزعة تهمیش الأخرین المختلفین عنها عرقیا ومذهبیا وسیاسیا لدی بعض القادة والأحزاب السیاسیة العراقیة التي تلزم وراء الکوالیس زمام السلطة والقرار، جعلت من الدولة التي تفتقر الی النظام المؤسساتي، مکتوفة الأیدي أمام الحفاظ علی التوازنات وضعف قدرتها علی تحقيق التوافق بين المكونات السياسية المختلفة مما جعل من مفهوم المواطنة مفهوما غریبا علی المسامع الی حد الغیاب.
ثالثاً: غیاب الحكم الرشيد
عملية الإصلاح بمجملها وفي شتى مجالات الحياة السياسية والإدارية بحاجة إلى سيادة القانون فوق كل الاعتبارات وتطبيقه بشكل عادل، هذا مع وجود مؤسسة رقابية ذات صلاحية وسلطة، وذلك من اجل الحد من تفشي الفساد ومحاسبة المفسدين، لكن ضعف سيادة القانون وهشاشة المؤسسات القضائية أمام هيمنة قوى تفوق سلطتها الحزبية والطائفية سلطة القانون، أجهضت بدورها ولادة حكم رشيد.
من التطور الی التدهور
يعاني العراق علی الصعید الإقتصادي من اختلال جوهري، حيث تشكل إيرادات النفط أكثر من 95% من عائدات الموازنة العامة. وفي المقابل يضعف القطاع الزراعي والصناعي يوما بعد يوم، وهذا ما أثر سلبيا على النمو الاقتصادي. وبهذا الصدد يؤكد صندوق النقد الدولي بأن توقعاته لنمو الاقتصاد العراقي في 2025 تراجعت من 4% إلى مستويات أقل وان العجز المتوقع في الموازنة العامة قد يصل إلى 7.6% من الناتج المحلي الإجمالي، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، يواجه العراق تحديات اقتصادية كبيرة، من بينها ارتفاع معدلات البطالة والاعتماد المفرط على التوظيف الحكومي، هذا إضافة إلى مشاكل في بنيته التحتية حيث تدهور شبكات الكهرباء والمياه وضعف شبكات النقل والمواصلات، وتحديات اقتصادية اخرى.
شبح العقل المنفلت!
تعتبر التهديدات الأمنية الداخلية اكثر خطورة على الاستقرار السياسي والسلم المجتمعي في العراق، ولا تكمن خطورة هذە التهديدات في عودة نشاط خلايا تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) في مناطق متفرقة وتحدي السيطرة على الحدود، بل الخطر الأكبر الذي يهدد امن العراق واستقراره السياسي وسلمه المجتمعي، هو تنامي نفوذ الميليشيات والفصائل الولائية والسلاح المنفلت وتأثيرهما على القرار السياسي والأمني. هذه الفصائل التي تأبى الانصياع لسلطة القانون والإذعان لقرارات الدولة وترك السلاح أو كأضعف الإيمان بالدولة ترفض إدماجها ضمن المؤسسات الأمنية الرسمية.
إذن، ان حل ملف السلاح المنفلت والميليشيات التي يحكمها عقل منفلت، يمثل حجر الزاوية في بناء الدولة العراقية المستقرة وذات السيادة. بدون معالجة هذا الملف الشائك، ستبقى التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية تتفاقم، وسيبقى مستقبل العراق رهيناً للتوازنات الهشة والمصالح المتضاربة وعرضة للریاح العاتیة ولعواصف هوجاء.
تعزیز الحوار الوطني
تفاقم الانقسامات الطائفية والسياسية، ضعف المؤسسات وتراجع الثقة الشعبية، تزايد التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية، عودة العنف الطائفي والإرهاب، تصاعد النزاعات المسلحة، فقدان السيطرة على السلاح المنفلت، كلها عوامل قد تؤدي بالعراق إلى الهاوية.
الخروج من هذه الأزمات وتجاوز هذه التحديات بحاجة إلى إرادة سياسية وطنیة حقیقیة تعلو فوق الإنتماءات الایدیولوجیة والطائفیة والفئویة والمصالح السیاسیة الضیقة، إرادة تضع صوب أعينها استقرار العراق. والإستقرار هذا مرهون بصون الدستور وسیادة القانون وضمان حقوق المكونات وحل الفصائل المسلحة وتحقيق توافق وطني حول الإصلاحات المطلوبة وتعزيز مؤسسات الدولة وتحسين العلاقة بين الحكومة والمواطنين علی اساس المواطنة المتساویة دون اي تمییز أو إستثناء.
ولتحیق هذە الاهداف والنجاح في هذا المسعی لابد من إطلاق عملية حوار شامل بين جميع المكونات السياسية والاجتماعية لبناء رؤية مشتركة للمستقبل.
الخاتمة
نعود ونؤكد مرة اخرى بأن العراق يقف على مفترق طرق وهو أمام فرصة تأريخية لإعادة بناء نفسه كدولة مستقرة وذات سيادة تصون كرامة الفرد وتنعم مكوناتها في ظلها بالحقوق. فالقرارات التي يتخذها القادة والسياسيون اليوم ستحدد مسار بلدهم للعقود القادمة، لذا عليهم أن يختاروا بحكمة الطريق الذي يقودهم إلى المستقبل الذي ينشده جميع مكوناته، بعيداً عن أطماع التسلط ونوايا التهميش.
الفرصة سانحة ولكي لا تكونوا من الذين قيل عنهم “نحنُ الفرص الضَائعة التي لنّ تَتكرر.” اغتنموها بحكمة وتعقل ومن دون تردد، وإلّا كما قال الشاعر:
وَلَقَدْ تَرَدَّدْتُ فِي أَمْرٍ وَكُنْتُ أَرَى
أَنَّ الصَّوَابَ بِهِ وَالرُّشْدَ قَدْ حُجِبا
