هل دكتاتورية الشعوب هي البديل القادم لدكتاتورية راس المال
مقالات
أ. د. محمد طاقة
عاشت البشرية على مدار العقود الأخيرة تحت وطأة نظام عالمي تُهيمن عليه أقلية مالية عالمية، تمتلك راس المال، وتتحكم في الإعلام، وتدير القوة العسكرية الدولية، هذه المنظومة التي يمكن وصفها بدقة ب( دكتاتورية راس المال )، لم تترك مجالاً لحياة ديمقراطية حقيقية، بل قامت بإفراغ مفاهيم الحرية والعدالة من مضامينها، لتخدم مصالح تلك الاقلية على حساب الأغلبية الساحقة من سكان الارض.
ان النظام الرأسمالي يعيش ازمة وجودية متعددة الاوجه تتجلى في ازمة البيئة والمناخ، ان الرأسمالية بطبيعتها الاستهلاكية القائمة على تعظيم الارباح اضرت بالكوكب، تغيير المناخ، التلوث، استنزاف الموارد الطبيعية، كلها نتائج مباشرة لمنطق السوق الحر، كذلك ازمة الديون، الاقتصاد العالمي غارق في ديون غير مستدامة (ديون الدول والشركات والأفراد) وقد تحولت ادوات الدين إلى قنابل موقوتة تهدد الاستقرار المالي العالمي. اضافة إلى اللامساواة، اي الفجوة بين الاغنياء والفقراء تزداد اتساعاً بشكل غير مسبوق، (اقل من 1%) من البشر يملكون ما يعادل نصف ثروات العالم، بينما مئات الملايين يعيشون في فقر مدقع. كما ان الركود والانكماش حيث اقتصادات الدول الكبرى تواجه تباطوء طويل الأمد في النمو، في ظل تشبع الأسواق، وضعف الطلب وعدم قدرة السياسات النقدية على التحفيز المستدام. إضافة إلى الحروب وتصاعد الصراعات الإقليمية والعالمية، وعودة منطق الحرب الباردة والحروب بالوكالة وازمات الطاقة والغذاء، كلها تكشف هشاشة النظام العالمي القائم. كل هذه الأزمات تشير إلى ان الرأسمالية لم تعد قادرة على الاستمرار بذات الطريقة وان الأزمة لم تعد دورية بل وجودية، وان النظام الرأسمالي العالمي قد بلغ ذروته في السيطرة والاحتكار، حيث تتحكم الأوليغارشية على اكثر من نصف ثروات العالم وان المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) تدار لمصلحة النخبة الرأسمالية، وان الاعلام العالمي موجه لتكريس (الخوف، والطاعة، وثقافة الاستهلاك). والحروب تفتعل لتصريف فائض الانتاج العسكري وخلق تبعية اقتصادية جديدة.
هذه الممارسات تنتج حالة غضب جماهيري كامن في المجتمعات، لاسيما في الجنوب العالمي، بل حتى داخل الدول الغربية نفسها. ان تصاعد الاحتجاجات ضد (النيو ليبرالي)، كما في فرنسا (اصحاب السترات الصفراء) وأمريكا اللاتينية وأفريقيا ومنطقة الشرق الاوسط، تشير إلى ان الشعوب بدأت تفقد الثقة بالنظام العالمي القائم.
ومن وجهة نظرنا ان دكتاتورية الشعوب كمفهوم بديل لدكتاتورية راس المال يعبر عن رفض للاحتكار الرأسمالي الذي يهيمن على الأسواق العالمية والسياسات والوعي ورفض للنخب السياسية والاقتصادية التي تدعي تمثيل الشعوب بينما تخدم مصالح الشركات العملاقة. هذا المفهوم يشير إلى مرحلة ثورية جديدة، قد لا تتخذ شكل ثورة عنيفة تقليدية بل قد تكون ثورة وعي جماهيري ترفض الخنوع لإملاءات السوق والمال. وتسعى إلى انتقال تدريجي نحو اقتصاد بديل محلي تعاوني، تشاركي اكثر عدالة واستدامة. وتعمل على تفكيك هيمنة الدولار والشركات العابرة للقارات عبر لا مركزية الاقتصاد. واعتماد نماذج جديدة مثل العملات المحلية، الاقتصاد الاجتماعي، والعملات الرقمية اللامركزية. إذا ارادت الشعوب ان تبني بديلاً حقيقياً عن دكتاتورية راس المال، فلا بد من رؤية واضحة تتضمن اقتصاد إنساني قائم على الحاجات لا على الارباح واعادة توزيع الثروة بشكل عادل عبر نظم ضريبية عادلة، واعادة تعريف الملكية وتقليص سيطرة الشركات العملاقة على الموارد العامة والعمل على تحرير المعرفة والاعلام من قبضة الاحتكار الرأسمالي، لان الوعي هو اساس
التغيير. والعمل على تحقيق ديمقراطية حقيقية تشاركية، لا تلك التي تختطف من صناديق الاقتراع ثم تدار من خلف الستار.
والإشكالية الكبرى فيما إذا الشعوب جاهزة لتحقيق هذه التحولات الكبرى، كون الشعوب تعاني من تضليل إعلامي هائل يغيب عنها طبيعة ازمتها الحقيقية، وكذلك الخوف من التغيير بسبب عقود من القمع والفقر والاعتماد على الدولة أو السوق، وتفكك القوى الثورية البديلة وغياب مشروع متماسك يقود الجماهير، لكن رغم ذلك ان بوادر الوعي تتصاعد، من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط من احتجاجات الطبقات العاملة إلى حركات البيئة من رفض النيو ليبرالية إلى انتقاد العولمة المتوحشة.
نعم ان النظام الرأسمالي يعيش مراحله الأخيرة كما نعرفه اليوم، والانفجار قادم لا محالة، ولكن البديل لن يكون ثورة اشتراكية كلاسيكية، ولا ولادة شمولية شعبوية، بل ربما شيء جديد تماماً، ثورة قاعدية شعبية تتجاوز النماذج القديمة وتسعى إلى خلق توازن جديد بين الإنسان والاقتصاد، بين المجتمع والسوق، وما نسميه ب (دكتاتورية الشعوب) يمكن ان يكون التعبير الرمزي عن هذه المرحلة الجديدة، حيث تستعيد الشعوب سيادتها على مصيرها وثرواتها.
عمان
10-9-2025
