التجمع المدني الوطني العراقي: اجتثاث البعث تحوّل إلى أداة انتقام عمّقت الانقسام
أكد التجمع المدني الوطني العراقي في بيان له أن قانون اجتثاث البعث بصيغته الحالية لم يتحول إلى أداة للمساءلة كما أُريد له، بل أصبح أداة انتقامية لا تُحاسب الأفراد استنادًا إلى أفعالهم، بل تُقصي شريحة واسعة من أبناء الشعب العراقي بشكل جماعي.
وشدّد البيان على ضرورة التحلي بالشجاعة السياسية في معالجة إرث الماضي عبر قوانين عادلة لا تعرف التمييز، وتتجاوز منطق الثأر والانتقام، موضحًا أن التجارب أثبتت أن العدالة الحقيقية لا يمكن أن تكون انتقائية، وأن بناء وطن مستقر يتطلب مشاركة جميع أبنائه في مشروع وطني جامع.
ووصف التجمع قانون اجتثاث البعث بأنه «جرح غائر في جسد العراق» ما زال يُستخدم كأداة للانقسام بدل أن يكون وسيلة للإنصاف، داعيًا إلى تبني عدالة انتقالية حقيقية تضع حدًا لدورات الإقصاء وتفتح الطريق أمام مصالحة وطنية شاملة، فيما يلي نص البيان:
حين تتحوّل العدالة إلى انتقام… قراءة في إرث قانون اجتثاث البعث
في كل مرحلة انتقالية من تاريخ الشعوب، تُرفع شعارات العدالة والمساءلة باعتبارها بوابة نحو المستقبل. غير أن هذه الشعارات تفقد معناها حين تختزل إلى أدوات انتقامية وانتقائية، تُقصي بدل أن تُنصف، وتزرع بذور الانقسام بدل أن ترمم الجراح، فتتحول إلى غطاء لسياسات إقصاء جديدة.
كان قانون اجتثاث البعث في العراق في الأصل مُصاغًا تحت شعار “إحقاق الحق”، لكنه سرعان ما انحرف عن مساره، وتحول إلى أداة طائفية تمزق النسيج الوطني وتشعل روح الانقسام، تاركًا وراءه جروحًا عميقة في جسد الوطن، فقد كان سلاحًا طائفيًا بامتياز و أصبح تنفيذ القانون انتقائيًا، يستهدف بعض البعثيين بلا رحمة، بينما تم غضّ الطرف عن بعثيين آخرين بل وأُعيد دمجهم في مؤسسات الدولة للاستفادة من خبراتهم، ما كشف عن ازدواجية واضحة في التطبيق وأثار شعورًا عميقًا بالظلم.
منذ إقراره بعد عام 2003، شكّل هذا القانون محطة مفصلية في التاريخ السياسي والاجتماعي للعراق. تحوّل من مشروع يُفترض أن يحاسب المسؤولين عن الانتهاكات السابقة، إلى وسيلة لإقصاء شريحة واسعة من أبناء مكوّن محدد، فيما نجا آخرون من المساءلة رغم انتمائهم الحزبي المماثل. وبالرغم من الترويج له كخطوة نحو إنهاء حقبة سياسية سابقة، إلا أن التطبيق كشف عن وجه انتقائي وطائفي، عزز الشعور بالظلم لدى فئة واسعة من العراقيين، وفقد القانون مصداقيته، مما عمّق الفجوة بين مكونات المجتمع وأسهم في ترسيخ الانقسامات بدل رأب الصدع وتحقيق المصالحة الوطنية.
لم يقتصر أثر القانون على الإقصاء السياسي، بل امتد ليطال البنية الإدارية للدولة. فقد أُفرغت مؤسسات الدولة من آلاف الكفاءات والخبرات التي كان يمكن أن تساهم في إعادة الإعمار وبناء مؤسسات فاعلة. ومع غياب البدائل المؤهلة، انحدر الأداء الإداري والخدمي، وتراجعت قدرة الدولة على تلبية احتياجات المواطنين. وفي المقابل، فُتحت الأبواب أمام آخرين من الحزب السابق نفسه، مما أدى إلى خسارة العراق لعقول وإمكانات كان يمكن أن تخدم مصلحة الوطن، وفتح المجال لهيمنة خطاب طائفي غذّى الانقسام وأضعف مؤسسات الدولة.
الحزب السابق لم يكن كتلة متجانسة من الجناة، بل ضم مستويات متعددة من الأعضاء، من القيادات العليا إلى موظفين صغار لم يكن لهم أي دور في صناعة القرار أو ارتكاب الانتهاكات. وكان من الممكن – لو أريد للعدالة أن تتحقق – محاسبة كل فرد وفق ما اقترفته يداه، عبر محاكمات عادلة وشفافة، بدل اللجوء إلى عقاب جماعي يحمّل الملايين وزر أفعال قلة، ويترك الفاسدين الحقيقيين أحرارًا، ورغم مساوئ النظام السابق وطبيعته السلطوية وأخطائه الجسيمة، فإنه بنى كفاءات لا يزال العراق يستفيد منها حتى اليوم، حتى في ظل دولة طائفية مشوهة. وليس كل بعثي سيئًا، ولو وُجد عدل حقيقي، لشملت قوانين المساءلة الجميع دون استثناء.
إن معالجة إرث الماضي تتطلب قوانين لا تعرف التمييز، وشجاعة سياسية ورؤية وطنية تتجاوز منطق الثأر، ومساءلة نزيهة تطبّق على الجميع بلا استثناء. فالقوانين التي تُصاغ أو تُطبّق على أسس طائفية لا تُنهي الأزمات، ولا تصنع استقرارًا، بل تؤسس لدورات جديدة من الإقصاء والانتقام، وتغلق الباب أمام أي مشروع وطني جامع.
لقد أثبتت التجربة أن العدالة الانتقائية ليست عدالة، وأن إقصاء نصف المجتمع لا يصنع دولة. إن بناء وطن قوي لا يتحقق إلا بمشاركة جميع أبنائه في مشروع جامع يقوم على سيادة القانون وضمان الحقوق على قدم المساواة. إن اجتثاث البعث لم يكن مجرد قانون، بل جرحًا غائرًا في جسد العراق، استُخدم لتقسيم الشعب بدل توحيده، ولإقصاء العقول بدل الاستفادة منها، ولتثبيت سلطة عاجزة بدل بناء دولة عادلة. والتاريخ لا يرحم القوانين التي رُفعت باسم العدالة لكنها خدمت الانقسام أكثر مما خدمت الوطن.
ورغم أن قانون اجتثاث البعث، الذي جرى تعديله عام 2008 ليصبح قانون المساءلة والعدالة، ما زال يشكل أداة ضغط مسلطة على رقاب العراقيين ويُستغل من قبل بعض القوى السياسية ضد كل من يختلف مع توجهاتها، فإن آلاف الموظفين المدنيين والعسكريين ما زالوا محرومين من حقوقهم التقاعدية، هم وعائلاتهم، بعد أكثر من عشرين عاماً على صدور هذه التشريعات المجحفة، مما جعلهم ضحية لسنوات خدمتهم وتعبهم. لقد آن الأوان لإنصاف هذه الشرائح، وتحقيق عدالة انتقالية حقيقية تنسجم مع روح الديمقراطية ومتطلبات العصر، ووضع حد لسياسة الانتقام.
التجمع المدني الوطني العراقي
25 آب 2025
