شحّة المياه يفجّر أزمة مزدوجة في العراق
تقارير
في عمق الريف الجنوبي لمحافظة الديوانية، تجف الأرض يوماً بعد آخر، وتنهار معها آمال الفلاحين الذين باتوا على حافة العجز. أبو عباس، أحد آلاف المزارعين في العراق، يختصر الواقع بمرارة “المحاصيل تذبل والأرض تعاني من العطش“.
معاناة الفلاحين
في قريته الواقعة جنوب الديوانية، يقف أبو عباس أمام أرضه المتشققة، حيث لم تعد مياه الري تصل كما كانت. يقول لوكالة شفق نيوز “المحاصيل الزراعية تلفظ أنفاسها الأخيرة، فيما باتت كميات المياه المتوفرة بالكاد تكفي للري“.
أبو عباس، وهو أب لخمسة أطفال، بدأ يراجع خياراته، متخلياً عن مهنة عاش فيها عمره، مضطراً للتفكير بالهجرة نحو المدينة بحثاً عن عمل “لا أستطيع ترك عائلتي تموت جوعاً. كنت آمل موسماً جيداً، لكن كل شيء ذهب هباءً“.
الجفاف أجبر الكثير من الفلاحين على مغادرة أراضيهم، تاركين خلفهم مصادر رزقهم، ومهددين بانقراض الزراعة في مناطق كانت يوماً تُعرف بـ”سلة العراق الغذائية“.
يقول أبو عباس “إذا لم يُوجد حل سريع، فسوف يضطر الجميع لترك الأرض، وسيجد العديد منهم أنفسهم مضطرين للهجرة إلى المدن بحثاً عن فرص العمل“.
تجاهل التحذيرات
ويعد شح المياه في العراق أزمة متراكمة، بدأت تدريجياً منذ سنوات، بحسب الخبير في شؤون الموارد المائية تحسين الموسوي.
ويقول الموسوي لوكالة شفق نيوز إن “الجفاف لا يأتي فجأة، وقد أطلقت الأمم المتحدة تحذيرات مبكرة من أزمة عطش وشيكة في العراق، نتيجة الإفراط في الاستخدامات المائية وتراجع الإطلاقات من دول الجوار“.
ويشير إلى أن دراسة أعدّتها وزارة الموارد المائية في عام 2015 قدّرت الإيرادات السنوية بـ35 مليار متر مكعب، في حين خفّضت دراسة محدثة في 2024 الرقم إلى 20 مليار، ولم يتحقق فعلياً منها شيء.
وينتقد الموسوي الأداء الحكومي، قائلاً إن “ما جرى خلال السنوات الماضية ليس مفاوضات، بل مجرد محادثات، لأنها لم تنتج اتفاقيات ملزمة. وهذا خلل كبير في إدارة الملف المائي“.
ويضيف أن الخطة العاجلة يجب أن تبدأ بإجراءات قاسية، منها وقف الخطة الزراعية الصيفية باعتبارها الأكثر استهلاكاً للمياه. وإيقاف الملوثات التي تفسد مصادر المياه القليلة المتبقية
ويحذّر من أن القادم أسوأ “الموسم الشتوي يتطلب كميات مياه أكبر، والعراق لا يمتلكها حالياً“.
“ربع الحصة فقط“
من جهتها، تصف عضو لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية، ابتسام الهلالي، الوضع المائي بأنه “أزمة حقيقية”، مشيرة إلى تقصير واضح من الجانب التركي في الالتزام بتوفير الحصة المائية.
وتقول الهلالي لوكالة شفق نيوز، إن “تركيا لم تطلق سوى 200 متر مكعب في الثانية، من أصل 800 متر مكعب تم الاتفاق عليها سابقاً. هذه الكمية لا تكفي ولا تسد حاجة البلاد“.
وتضيف أن الاعتماد الأكبر للعراق هو على المياه القادمة من تركيا، خاصة مع معاناة إيران من جفاف مماثل، وقلّة الأمطار والثلوج هذا العام، وغياب سدود كافية لتخزين المياه.
وتشير الهلالي إلى أن الحكومة العراقية اتخذت إجراءات شملت منع التجاوزات على الأنهار، وتقليل الهدر المائي، واعتماد أنظمة ري حديثة مثل السقي بالأنابيب المغلقة.
لكنها اعتبرت هذه الحلول “غير كافية”، خصوصاً في ظل تجاوز عدد السكان 45 مليون نسمة، بمتوسط استهلاك يومي يراوح بين 250 إلى 300 لتر للفرد.
وتؤكد أن العراق لا يمتلك أي اتفاقيات دولية ملزمة مع تركيا، بل يستند إلى تفاهمات قديمة غير موثقة رسمياً، وتُبيّن “نحتاج إلى اتفاقية مائية جديدة، مع استخدام ورقة الضغط التجاري وإيقاف التبادل مع تركيا إن اقتضى الأمر“.
كما تدعو إلى الإسراع في تشريع قانون المجلس الوطني الأعلى للمياه، ليكون تحت إدارة رئيس الوزراء، مما يمنح السياسات المائية صفة الإلزام والتنفيذ الفعلي.
نحو أزمة بنيوية
من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي أحمد عيد أن أزمة المياه في العراق لم تعد مسألة بيئية أو زراعية فحسب، بل تحوّلت إلى تهديد مباشر للاقتصاد الوطني.
ويقول عيد في حديثه لوكالة شفق نيوز إن “شحّ المياه وتراجع الإيرادات المائية، بالتزامن مع ارتباك السياسات الزراعية، أديا إلى تقليص المساحات المزروعة، وتراجع الإنتاج المحلي من المحاصيل الأساسية“.
ويحذّر من نتائج اقتصادية خطيرة في حال استمرار الوضع منها ارتفاع كلف الاستيراد، وضغط إضافي على الموازنة العامة، وارتفاع معدلات البطالة والفقر خصوصاً في المناطق الريفية.
ويرى أن غياب الرؤية الإستراتيجية الشاملة في إدارة الموارد المائية والزراعية قد حوّل الأزمة من قطاعية إلى أزمة بنيوية، تمتد آثارها إلى مختلف مفاصل الاقتصاد.
وبناءً على ذلك، يدعو عيد في الختام إلى إصلاح إدارة ملف المياه، ودعم المنتجين المحليين، وتبني سياسات زراعية واقتصادية مستدامة، وأخيراً اعتماد رؤية اقتصادية متكاملة تُوازن بين الموارد المتاحة واحتياجات السكان المتزايدة.
