ملامح شرق أوسط جديد يولد من رماد الحروب
مقالات
إن جوهر التحولات الجيوسياسية العميقة التي تشهدها ما يسمى بمنطقة “الشرق الأوسط”، لاسيما بعد ما يقارب العقد ونصف العقد على اندلاع الانتفاضة في سورية وما تلاها من تحولات دولية وإقليمية، جعلت من مستقبل سوريا والمنطقة برمتها عرضة لإعادة تشكل على أسس جديدة.
بدأت تتضح لحظة التحول لملامح شرق أوسط جديد بعد التوافق الدولي على إنهاء نظام بشار الأسد. إذ منذ مطلع عام 2024، تكثفت المؤشرات على وجود توافق دولي غير معلن، لكنه متصاعد، بشأن ضرورة إنهاء نظام بشار الأسد، بعد أن بات عبئاً أمنياً وسياسياً على جميع الأطراف، بمن فيهم بعض من كانوا يوماً داعمين له. وقد تزامن ذلك مع تحركات دبلوماسية وعمليات عسكرية موضعية، توحي بأن نظام الأسد يدخل مرحلة “التفكيك البارد”، بالتوازي مع إعادة صياغة هوية بديله المحتمل. وتتضح ملامح هذا الـ “شرق أوسط الجديد” في ظل التغيرات الجيوسياسية المستمرة، والتحول في الاستراتيجيات الإقليمية والدولية، ويُعتبر جزءًا من جهود أوسع لتحقيق ترتيب المنطقة.
اللافت في هذه المرحلة أن البديل الذي كان يُهيأ له ليس بالضرورة “معارضة علمانية” أو “مجالس محلية” ذات طابع سلمي ديمقراطي، بل تشكيلات عسكرية إسلامية، موضوعة على قوائم الإرهاب الدولي. هذا التحول يثير تساؤلات عميقة: هل يجري تأهيل هذه الفصائل لتكون شريكاً في منظومة شرق أوسطية جديدة؟ وما ملامح هذا الشرق الأوسط؟ ومن هم اللاعبون الجدد والقدامى فيه؟
أولاً: تفكيك نظام الأسد وتحييد إيران
الخطوة الأولى في بناء شرق أوسط جديد تكمن في تصفية النفوذ الإيراني، الذي تمدد عبر أذرع مسلحة في لبنان (حزب الله)، العراق (الحشد الشعبي)، وسوريا (الميليشيات الشيعية العراقية، الأفغانية والباكستانية، والفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد). هذا التمدد لم يعد مقبولاً دولياً، بل بات يُنظر إليه كعامل ازعاج دائم لاستقرار إسرائيل والخليج، وكمصدر تفجير للمجتمعات السنية، وإدامة لحالة الحرب “شبه الطائفية.” من هنا، فإن التفاهم الأميركي- التركي-الإسرائيلي-الخليجي بات واضحاً في أنه لا يمكن بناء شرق أوسط مستقر إلا بإخراج إيران من المعادلة، ليس فقط سياسياً، بل عسكرياً أيضاً.
ثانياً: تأهيل الفصائل الإسلامية “السنية” كبديل
بالتوازي مع تقليص النفوذ الإيراني، تمَّ العمل على إعادة تأهيل بعض الفصائل الإسلامية، التي كانت حتى سنوات قريبة توصف بـ “التكفيرية” أو “الإرهابية”، لتكون نواة لمستقبل سياسي وأمني جديد في سوريا وربما في مناطق أخرى. معظم هذه الفصائل الجهادية في سوريا، مثل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، كانت في مرحلة ما تتبنى فكر القاعدة، أو على الأقل ترتبط به عضوياً أو تنظيمياً. تشهد اليوم، تحولًا واضحًا في توجهاتها: “التحول من جهاد عالمي إلى واقعية محلية التخلٍّي عن مفهوم الخلافة والولاء الأممي. قبول الحدود الجغرافية والسلطة الوطنية ضمن كيان سوري محلي. السعي لبناء “شرعية داخلية” بدلاً من مشروع أممي، خطاب مخفف عن العدو القريب وغياب شبه كامل لخطاب العدو البعيد أي الغرب. التمييز بين البعد الدعوي والجهادي وبين البعد السياسي والتدرج نحو البراغماتية السياسية. وذلك رغبة في البقاء على قيد الحياة في بيئة دولية ترفض الجهاد العابر للحدود، محاولة فتح قنوات تفاوضية مع الأطراف الإقليمية والدولية مع إعادة توصيف الذات: ثوار لا جهاديون.”.
يدأت بعض الفصائل تستخدم مصطلحات مثل: “مشروع تحرير وطني” بدلًا من “جهاد”، “نظام سياسي عادل” بدلًا من “حكم الشريعة الصارم”، “إرادة شعبية” بدلًا من “الطليعة المؤمنة”. تحول في خطاب بعض هذه الفصائل نحو القبول بـ: الاتفاقات الإبراهيمية، أو على الأقل عدم معارضتها. والحلول السياسية بدلًا من مشروع “الخلافة” والشراكة الإقليمية مع دول كتركيا والسعودية والإمارات. مما يشير إلى أنها دخلت مرحلة “التدجين السياسي”، وفق الشروط الدولية الجديدة، مقابل شرعنة حضورها في مستقبل سوريا وربما إدماجها في منظومات أمنية أوسع.
هذا التحول له غرض أساسي هو الاندماج في المعادلة السياسية الجديدة من دون إقصاء. والتحولات ليست بالضرورة نابعة من قناعة إيمانية أو فكرية، بل من ضغوط دولية (تصنيف إرهابي، تجفيف التمويل، القصف المستمر). ضغوطات لا تلغي الإسلام السياسي، لكنها تعيد إنتاجه في صورة أكثر انضباطًا و”قابلية للتعايش”. والفصائل التي تقبل بالقواعد الجديدة (حدود وطنية، اتفاقات إقليمية، موقف غير عدائي من إسرائيل) ستجد لنفسها مكانًا.
ثالثاً: ملامح الشرق الأوسط الجديد
1-تقاسم أمني وطاقوي واقتصادي.
2-إسرائيل شريك صريح في كل المعادلات الأمنية، وتوسّع عمقها الاستراتيجي عبر اتفاقات أمنية وتقنية. والتعاون في مجالات الأمن والاقتصاد. هذا التعاون قد يسهم في تحقيق استقرار أكبر، ويعزز من قدرة هذه الفصائل على السيطرة على الأرض.
3-دول الخليج (خصوصًا السعودية والإمارات) تتحول إلى رعاة استقرار بديل عن الدور الأميركي التقليدي.
4-تركيا تلعب دور “الموازن السني” مقابل تراجع النفوذ الإيراني
5-احتواء الإسلام السياسي بنسخته المعتدلة، والفصائل التي تقبل بالانخراط في النظام الإقليمي سيُسمح لها بالاستمرار وربما التحول إلى قوة سياسية. ولا مكان للأيديولوجيات الجهادية العابرة للحدود. مما سيؤدي إلى تغيير في الديناميات السياسية. هذه الفصائل قد تتبنى أيديولوجيات أقل تطرفًا وتكون أكثر قبولًا للاندماج في النظام الإقليمي والدولي.
6-تراجع النفوذ الإيراني: تم إخراج إيران وأذرعها المسلحة من المعادلة، وهذا سيؤدي إلى إنهاء أو تقليص النفوذ الإيراني “الشيعي” في المنطقة ويعزز من موقف القوى “السنية” هذا التغيير سيُحدث توازنًا جديدًا في القوى الإقليمية.
7-نظام إقليمي قائم على التطبيع والتقاطع الاقتصادي، من العراق إلى سوريا إلى لبنان، يتم بناء نظام علاقات قائم على الاستثمارات لا الثورات. الطاقة، الربط الكهربائي، الكابلات البحرية، الأمن السيبراني، كأدوات تشكيل جديد للمنطقة.
8-تفكيك بؤر الأزمات عبر “الإفلات من العقاب السياسي”، لا محاسبة للأسد، ولا محاكمات دولية مقابل خروجه من المشهد. وتُبرأ الفصائل المسلحة من ماضيها تدريجياً، مقابل التزامها بسقف سياسي محدد.
رابعاً: القوى الفاعلة دولياً وإقليمياً
الولايات المتحدة: ستظل لاعبًا رئيسيًا في تشكيل هذا الشرق الأوسط الجديد، حيث تسعى لتعزيز مصالحها الأمنية والاقتصادية، ودعم الأنظمة المعتدلة. وقد تنكفئ عسكرياً، لكنها تدير المشهد استخباريًا ودبلوماسيًا، خصوصاً عبر التنسيق مع إسرائيل والخليج.
روسيا: قد تستمر في لعب دور الوسيط، حيث تسعى للحفاظ على مصالحها في المنطقة، من خلال التكيف مع التحولات الجديدة، وتحاول الحفاظ على ما تبقى من نفوذها في سوريا.
الصين: من خلال الحضور الاقتصادي الصامت، وهي ليست معنية بالتدخل العسكري، لكنها ستراقب عن كثب مشاريع إعادة الإعمار. وهي تملك مصالح في سوريا ضمن مشروع “الحزام والطريق”. لذا تدعم الاستقرار دون انخراط مباشر
إسرائيل: أصبحت طرفاً فاعلاً لا في الحرب فقط، بل في رسم مستقبل الأمن الإقليمي. مشروع “السلام مقابل الأمن” بات محورياً. وستلعب دورًا محوريًا في دعم الفصائل المعتدلة، حيث تسعى لضمان أمنها واستقرار المنطقة
تركيا: وهي المهندس الأكبر، تعيد تموضعها من داعم لفصائل المعارضة إلى شريك في ضبط الأمن وإعادة هندسة الفصائل المسلحة تحت قيادة موحدة. وتلعب دورًا مهمًا في دعم الفصائل الإسلامية المعتدلة، خاصة إذا كانت تتفق مع مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
السعودية والإمارات: انتقلتا من دعم الفصائل المعتدلة ماليًا وعسكريًا إلى احتوائها، كجزء من استراتيجيتها لمواجهة النفوذ الإيراني. وتمتلكان النفوذ المالي، والسياسي، وتعملان على ملء الفراغ الذي تركه تراجع النفوذ الإيراني.
قطر: كانت في السابق الداعم الأكبر للفصائل السلفية – الجهادية، لكنها انسحبت تدريجيًا تحت الضغط الأمريكي، وباتت تلعب دورًا أقل صخبًا وأكثر دبلوماسية، قد تعود للواجهة في حال تحوّلت الفصائل إلى أحزاب إسلامية معتدلة.
خامساً: التحديات أمام هذا المشروع
–غياب بنية سياسية بديلة فعلياً في الداخل السوري.
–خطورة ارتداد الفصائل إلى أيديولوجيتها القديمة.
–الرفض الشعبي في بعض الأوساط السورية والعربية للتطبيع أو التحالف مع إسرائيل.
–محاولة إيران وحزب الله مقاومة أي تسوية تخرجهم من المعادلة.
ربما للمرة الأولى منذ سايكس بيكو، يجري التفكير بما يسمى منطقة الشرق الأوسط كـ “كيان واحد مترابط”، يُعاد تشكيله ليس عبر حدود جغرافية، بل عبر شبكات أمنية واقتصادية وتحالفات هجينة. وسوريا لم تعد سوى بوابة، والفصائل الإسلامية لم تعد مجرد أدوات حرب، بل جزء من معادلة سياسية إقليمية. كل شيء يتغير، لكن الثابت الوحيد هو أن إيران تخرج، وإسرائيل تدخل من الباب الكبير.
