Skip links

“عنف الدم” يهدد صِلة الرحم.. الجرائم الأسرية تهز المجتمع العراقي

تقارير

لم تعد جرائم القتل محصورة في الشوارع أو بين الغرباء، بل امتدت لتضرب عمق الأسرة العراقية، حيث تتكرّر مشاهد مأساوية يقتل فيها الآباء أبناءهم أو يُقدم الأبناء على قتل والديهم.

هذه الظاهرة التي كانت تُعد نادرة وشاذة أصبحت اليوم تتصدر المشهد الاجتماعي، مدفوعةً بأزمات اقتصادية خانقة، وضغوط نفسية متراكمة، وتراجع واضح في القيم والروابط الأسرية.

وفي ظل غياب تشريعات رادعة وتفشي المخدرات والمؤثرات العقلية، يتحوّل البيت من مكان للأمان إلى ساحة للعنف، وسط تحذيرات من تحول هذه الجرائم إلى واقع مألوف إذا لم يُعالج الخلل من جذوره.

وتجاوزت “الظاهرة”، حدود الاعتداء الجسدي واللفظي، وبلغت أشدّ صورها من خلال جرائم قتل داخل محيط الأسرة، وسط تحذيرات من التداعيات النفسية والاجتماعية العميقة التي قد تنجم عنها.

مؤشرات خطيرة

وتقول الباحثة الأكاديمية في علم الاجتماع، وسن الجبوري، إن “المجتمع العراقي يشهد تحولات سريعة ومقلقة بسبب عدم استيعاب التجربة العراقية والانفتاح المفاجئ الذي حدث دون تمهيد“.

وفي حديث لوكالة شفق نيوز، تضيف الجبوري، أن “تزايد جرائم القتل داخل الأسرة، سواء من الآباء تجاه الأبناء أو العكس، يمثّل مؤشراً خطيراً على انحدار منظومة القيم الاجتماعية وتفكك البنية الأسرية في عدد متزايد من البيوت العراقية”، موضحة أن “العائلة التي كانت تمثل الحاضنة الأولى للطمأنينة والأمان، أصبحت في بعض الحالات مسرحًا للعنف والإجرام“.

وتشير الجبوري، إلى أن “العوامل المؤدية لهذه الجرائم معقدة ومتشابكة، تبدأ من تفاقم الأزمات الاقتصادية وتزايد الضغوط النفسية، مروراً بتفشي البطالة والانغلاق الاجتماعي، ولا تنتهي عند تصاعد معدلات الإدمان على المواد المخدرة والمؤثرات العقلية، خصوصاً في أوساط الشباب”، مبينة أن “غياب التوجيه الديني والأسري، وضعف دور المؤسسات التعليمية والتربوية، خلق فراغاً أخلاقياً ساهم في تفكك الروابط الأسرية، وأدى إلى تحويل الخلافات اليومية إلى مواجهات دموية أحياناً“.

كما تحذر من أن “استمرار المجتمع في التعايش مع هذه الحالات على أنها مجرد وقائع فردية، أمر خطير بحد ذاته، لأن هذه الجرائم تعبّر عن خلل مجتمعي عميق قد يتسع إذا لم يتم التعامل معه بجدية”، مؤكدة ضرورة “تفعيل دور الدولة في إطلاق برامج دعم نفسي واجتماعي، خاصة في المناطق المكتظة والهشة، إلى جانب تشديد العقوبات على الجرائم الأسرية، وتكثيف حملات التوعية لمنع تكرار مثل هذه المآسي“.

ووفقاً لحديث الجبوري، فقد تضع جرائم قتل الآباء للأبناء والعكس المجتمع العراقي أمام أزمة قيم وسلوك لا يمكن حلها من خلال الإجراءات الأمنية فقط، بل تتطلب جهداً وطنياً شاملاً تشترك فيه المؤسسات التربوية والدينية والإعلامية، لإعادة بناء ثقافة الاحترام داخل الأسرة وخلق بيئة صحية تضمن سلامة جميع أفرادها.

احصائيات وارقام رسمية

في المقابل، يكشف مصدر مطّلع في وزارة الصحة عن وجود 23 حالة قتل للأبناء على أيدي آبائهم خلال عام 2020 وحده، فيما أُدخل نحو 50 شخصاً من الآباء والأبناء إلى المستشفيات بسبب تعرضهم للضرب والكسور والحروق.

وامتنعت وزارة الداخلية، من جانبها عن الإدلاء بأي تصريحات أو ذكر إحصائيات تتعلق بقتل الأصول، معتبرة أن هذه الجرائم قديمة.

وشهد الأسبوع الماضي جريمة قتل مروّعة، أقدم فيها شاب على إطلاق رصاصة استقرت في رأس والده، بسبب رفضه التقدم لخطبة فتاة كان الابن قد تعرف عليها عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي.

أسباب انتشار الظاهرة

وفي العام الماضي، وقعت أربع جرائم أسرية متتالية خلال أسبوع واحد، أثارت الغضب والاستياء الشعبي، من بينها قيام أحد الآباء بتقييد ابنته بالسلاسل الحديدية قبل أن يقتلها لاحقاً.

الباحثون ربطوا جرائم قتل الأصول غالباً بحالات العنف الأسري، فيما كشفت بيانات غير رسمية عن تعرض 12% من الأطفال للعنف على يد الأبوين لأسباب متعددة.

وتقول الباحثة الاجتماعية أمل كباشي، للوكالة إن “اختلاف الأجيال يتصدر مشهد الخلافات الأسرية التي يسود فيها عدم تقبّل الآراء ووجهات النظر بين أفراد الأسرة“.

وتضيف أن “الجرائم التي تقع ضمن نطاق الأسرة تنبثق من التسلط والعنف وغياب الاحترام، وهي لا تحدث داخل الأسر التي يسود بين أفرادها الاحترام والتشاور وتبادل الآراء والعلاقات الودية، خاصة بين الزوجين، لأنهما عماد الأسرة وأساس تماسكها“.

وتشير إلى أن “جرائم قتل الآباء لأبنائهم والعكس تدل على ضعف القيم الأسرية والاجتماعية بشكل لم يكن معهوداً في العراق، وتعكس بمجملها انحلال النسيج الأسري بعد تفشي المخدرات والمؤثرات العقلية وغياب القوانين الفاعلة”، مبينة أن “جرائم قتل الأصول، خصوصاً الأبناء، مخالفة للطبيعة البشرية تمامًا، لأن الأبناء يمثلون الامتداد الطبيعي لآبائهم“.

وفي الوقت الذي يشدد فيه خبراء على ضرورة معالجة هذه الظاهرة الخطيرة باتباع أساليب تربوية تشترك فيها مختلف مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني، يؤكد خبراء القانون على ضرورة تحديث التشريعات القانونية وإجراء تعديلات على بعض القوانين لمواكبة التغيرات الاجتماعية المتسارعة.

رؤية قانونية للظاهرة

وينوّه المشاور القانوني مؤيد الصباغ في حديث للوكالة إلى أن “جرائم قتل الأصول بحاجة إلى قانون خاص يحدد عقوبات تتناسب مع خطورتها وأثرها، ويكون مختلفاً عن جرائم القتل العامة التي تحدث نتيجة شجار أو خلافات مالية أو شخصية”، مضيفاً أن “تفاقم جرائم الأسرة يدعو إلى تعديل وتفعيل القوانين الخاصة بمكافحة العنف الأسري وتجارة المخدرات والمؤثرات العقلية، لأن معظم هذه الجرائم ترتبط بها بشكل مباشر“.

ويشير إلى أن “قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدّل ما زال نافذاً، رغم أنه قانون قديم لا تتضمن مواده العديد من المستجدات التي شهدها العراق بعد عام 2003، فيما لا تزال المؤسسة التشريعية غير فاعلة في سن قوانين حيوية تعالج الخلل الذي يحدث في البنية الأسرية والاجتماعية“.

ويؤكد الصباغ، أن “النصوص القانونية الواردة في قانون العقوبات العراقي لا تنسجم مع البشاعة المتزايدة في جرائم قتل الأصول، ومنها حرق الزوجة لزوجها أو خنقه أو طعنه، فضلًا عن جرائم قتل الآباء لأبنائهم والعكس باستخدام أدوات ووسائل مرعبة، وجميعها تتكرر دون أن ينال مرتكبوها عقابًا يتناسب مع فظاعتها، ما يهدد الأسرة والمجتمع ويفكك منظومته الأخلاقية“.

وبين الحين والآخر، يهتز المجتمع العراقي على وقع جرائم قتل مروعة تطال الآباء والأبناء والأمهات والزوجات على أيدي ذويهم، وتحدث في بغداد ومدن أخرى.

وقد كشفت بعض التحقيقات الأمنية ارتباط عدد من هذه الجرائم بأسباب مادية كالثروة والميراث، فيما أظهرت أن بعض مرتكبيها كانوا يعانون من اضطرابات نفسية عميقة أو ارتكبوها تحت تأثير المخدرات والمؤثرات العقلية.

اترك تعليقًا

عرض
Drag