اتفاقية سايكس – بيكو الجديدة ((بين اعادة التشكيل والهيمنة على النفط العربي))
أ. د. محمد طاقة
من خلال متابعة مجريات الاحداث في وسائل الاعلام المختلفة ، التقليدية منها والرقمية ، يلحظ المتتبع ، أن عدداً كبيراً من المحللين السياسيين والاستراتيجيين يتناولون ما يسمى ((بالشرق الأوسط الجديد)) . غير ان معظم هذه الطروحات تركز على الجوانب السياسية والأمنية . بينما تُغفل في الغالب العوامل الاقتصادية ، على الرغم من كونه يمثل الركيزة الأساسية التي يقوم عليها مشروع الشرق الأوسط الجديد منذ نشأته. ومن هنا تأتي هذه الدراسة لتسليط الضوء على البعد الاقتصادي لهذا المشروع وبيان أهميته ودوره المحوري في اعادة رسم خرائط المنطقة وتوازناتها .
((من المعروف ان اتفاقية سايكس- بيكو ، هي اتفاق سري أبرمته بريطانيا وفرنسا خلال الحرب العالمية الاولى ، وبموافقة الإمبراطورية الروسية لتقاسم المشرق العربي بعد اسقاط الدولة العثمانية ، وتعد الاتفاقية الاساس السياسي الاول لتقسيم الوطن العربي
إلى كيانات وحدود مصطنعة تخدم المصالح الاستعمارية . تم توقيع الاتفاقية رسمياً في(( 16 أيار عام 1916 ))واليوم مضى عليها حوالي (109 )سنة هذه الاتفاقية قسمت الشرق العربي إلى مناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا ومنحت فلسطين وضعاً دولياً خاصاً ، مما مهد الطريق لاحقا لزرع الكيان الصهيوني ورسمت الحدود الحالية بين العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين . وبذلك صنعت كيانات ضعيفةو مجزأة بدل دولة عربية موحدة)) .
من يتأمل تاريخ الشرق الأوسط خلال القرن الماضي يدرك ان ما جرى عام (1916) كما في اتفاقية سايكس -بيكو ،لم يكن مجرد عملية تقسيم جغرافي بين بريطانيا وفرنسا بل كان بداية مشروع طويل لإعادة تشكيل المنطقة بما يتناسب مع مصالح القوى الكبرى في ذلك الوقت كانت القوى الاستعمارية بحاجة إلى السيطرة على الممرات المائية البحرية والمواقع الاستراتيجية لتأمين طرق التجارة نحو الهند وآسيا وكانت بحاجة أيضا إلى منع قيام أي كيان عربي كبير يهدد نفوذها . ومع ان النفط لم يكن قد اكتسب بعد أهميته القصوى إلا أن بوادر قيمته بدأت تظهر مع اكتشافات أوليه في الخليج والعراق .
و هكذا جاءت الخرائط التي رسمت أنذاك لتعكس رؤية استراتيجية تهدف قبل كل شيء إلى تفتيت المجال العربي وتحويله إلى كيانات صغيرة يسهل التحكم بها .
ولكن بعد مرور أكثر من (100 ) عام على تلك الاتفاقية تغير العالم بشكل جذري لم تعد القوى الكبرى تحتاج إلى تقسيم حدود إضافية ولم تعد الخرائط الورقية هي سلاح السيطرة . لقد انتقل الصراع من مجرد احتلال مباشر إلى نظام أكثر تعقيدا ، نظام يدمج الاقتصاد بالطاقة ، والجغرافيا بالتحالفات ، والتكنولوجيا بالمعلومات، ليخلق نوعاً جديداً من الهيمنة يسمى اليوم(الشرق الاوسط الجديد)، هذا الشرق الاوسط لا يقوم على تقسيم الدول، بل تقسيم الأدوار بينها أي تقسيم وظائفها الاقتصادية والسياسية فهو لا يحتاج إلى تغيير الحدود ، بل لتحويل كل دولة إلى( وحدة وظيفية ) ، تخدم النظام الرأسمالي العالمي ،(( دولة منتجة للنفط فقط ودولة مستهلكة فقط وتصبح بعض الدول سوق للسلع ودولة مدمرة تحتاج إلى أعمار وبعض الدول تصبح مستودع للعمالة ودول أخرى محمية من قبل أمريكا وهكذا)) . فهذه ليست دول مستقلة بل عبارة عن وحدات اقتصادية وظيفتها أن تخدم النظام الرأسمالي العالمي . والسبب في هذا التحول يعود إلى الحقيقة البسيطة التي يتهرب منها كثير من المحللين من أن الطاقة وخاصة(النفط والغاز) أصبحت منذ منتصف القرن العشرين وحتى يومنا هذا هي العمود الفقري للاقتصاد العالمي . والأرقام الحديثة تؤكد ذلك بقوة ففي عام (2024 ) بلغ الاستهلاك العالمي للنفط أكثر من ( 103،8) مليون برميل يومياً ، وهي ذروة جديدة تعكس أن الحديث عن(نهاية عصر النفط) مجرد دعاية. والجدول الآتي يبين لنا حجم الاستهلاك اليومي ونسبته من الاستهلاك العالمي وذلك وفق تقارير إحصائية حديثة من منظمة أوبك وللدول الواردة في الجدول
البلد الاستهلاك اليومي نسبته من
مليون برميل. الاستهلاك
العالمي
————————————————————
أمريكا 20،25 19،5%
الصين 16،4 15،8%
اليابان 3،24. 3،1%
مجموعة اوربا 14،5 14%
————————————————————
المجموع 54،39 52،4 %
————————————————————-يتضح من الجدول اعلاه ان الصين وحدها تستهلك حوالي(16،4%) مليون برميل يومياً
أي ما يعادل (16%) من الاستهلاك العالمي بينما تعتمد أوروبا مجتمعة استيراد نسبة هائلة من احتياجاتها النفطية والطاقة. هذه الأرقام الواردة في الجدول أعلاه تكشف بوضوح أن مستقبل الدول الصناعية الكبرى مرهون باستمرار تدفق النفط من المنطقة العربية . و الجدول التالي يبين لنا إنتاج النفط اليومي/ مليون برميل من الدول العربية وكذلك يبين حجم الاحتياطات النفطية المثبتة لعام (2024).
الدولة انتاج النفط اليومي الاحتياطيات
——————————————————
السعودية 11،1 مليون 267 مليار
العراق. 4،4 145
الإمارات 4،1 98
الكويت 2،9 102
ليبيا 1،7 48،4
الجزائر. 1،1 12،2
دول اخرى – –
————————————————————
المجموع الكلي 28 مليون 672،6 مليار
——————————————————
من الجدولين أعلاه يمكننا فهم لماذا تعمل الولايات المتحدة الأمريكية(اعتبارها القوة الرأسمالية المهيمنة) على ضمان نفوذ قوي ومباشر على منابع الطاقة في الشرق الأوسط العربي، ليس لأن أمريكا تحتاج النفط العربي لنفسها، بل لأنها تريد الاحتفاظ بقدرتها على التحكم بالدول الصناعية المنافسة لها مثل الصين وأوروبا واليابان. التحكم بالطاقة يعني التحكم بالاقتصاد العالمي وهذا ما لخصه هنري كيسنجر عندما قال (( من يسيطر على النفط يسيطر على الامم )) .
ولذلك اعتبر الشرق الأوسط العربي يمثل قلب المشروع لأن المنطقة تمتلك ثلاثة عناصر لا يمكن لأي قوى عظمى تجاهلها مطلقاً .
اولا : النفط والغاز : الخليج وحده يحتوي أكثر من ثلث الاحتياطي العالمي .
ثانياً : تمتلك المنطقة أرخص تكلفة إنتاج في العالم.
ثالثاً : خطوط الإمداد تمر عبر مضايق محورية(( هرمز ، باب المندب ، وقناة السويس )) .
هذا كله يعني من يسيطر على النفط العربي يسيطر على شرايين الاقتصاد العالمي ، فضلا عن موقعه الجيوستراتيجي كونه يمثل المفصل بين آسيا وأوروبا وأفريقيا ، فالتحكم به يعني التحكم بالتجارة العالمية والطاقة والممرات البحرية. لذا السيطرة الأمريكية على النفط ليست من أجل استهلاكها الداخلي، بل من أجل الهيمنة على الدول الصناعية الأخرى لأن أوروبا تعتمد على الطاقة للإستمرار في صناعتها الثقيلة والصين تحتاج تدفقاً هائلاً للطاقة لتغذية نموها واليابان وكوريا تستورد كل شيء تقريبا. إذاً عندما تسيطر أمريكا على منابع النفط، فهي تخنق قدرة الآخرين على المنافسة وتمنع ظهور قوة عالمية موازية. ولهذا خاضت أمريكا حرب العراق عام (1991) غزت العراق واحتلته عام (2003) ، ووضعت قواعد عسكرية في الخليج وتتعامل بحزم شديد مع إيران، واليوم تهدد فنزويلا التي تمتلك أعلى احتياطي نفطي في العالم. مشروع الشرق الاوسط الجديد، ليس امريكيا فقط، بل((أمريكي، رأسمالي ، صهيوني )) ، تسهم فيه إيران بوعي أو بدون وعي . كون إسرائيل تحتاج إلى شرق أوسط مفكك ضعيف غير قادر على النهوض، حتى تصبح هي القوة المهيمنة سياسيا واقتصاديا، تمهيدا لدمجها في المنطقة عبر (الشرق الاوسط الجديد) الاقتصادي. وإيران تدخل المشروع من زاوية مختلفة، فهي تضعف الدول العربية من الداخل(العراق،، سوريا، لبنان واليمن) وتعمل على تحويل الصراع إلى طائفي بدل أن يكون سياسيا إستعمارياً . وتساعد عملياً في تفكيك ما تبقى من النظام العربي ، وكلما ضعفت الدول العربية، كان أمريكا واسرائيل أو ل المستفيدين .
وهكذا يصبح (الشرق الاوسط الجديد) ليس مشروعاً لتغيير الحدود، بل لإنتاج منظومة تبعية طويلة المدى، فهذا المشروع لا يحتاج إلى إعادة رسم الخارطة(بل هو امتداد لها، بل يحتاج إلى رسم الدور ) . الدولة يمكن أن تبقى بالاسم دولة، ولكن وظيفتها تتغير((دولة ثرية بالنفط ولكن بلا استقلال سياسي حقيقي، دولة ضعيفة تعاني من اضطرابات داخلية بحيث تمنع أي استقرار، ودولة محاصرة اقتصاديا ً ودولة مرتبطة امنياً بالقواعد العسكرية الأجنبية الخ)) المهم أن تصب جميعها لمصلحةالأوليغارشية المؤسساتية العالمية أي الشركات العملاقة والشركات الكبرى، أنها سايكس-بيكو دون خرائط، سايكس – بيكو قائمة على الاقتصاد لا على الإمبراطورية العسكرية.
وفي المشهد المعاصر ، تلعب إسرائيل وإيران أدواراً أساسية داخل هذه المنظومة، فاسرائيل تستفيد من تفكك الدول العربية لكي تصبح القوة الإقليمية الأكثر تنظيما وتأثيراً ، فيما تعمل إيران على إضعاف الداخل العربي عبر نفوذها المباشر في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وكلما تآكلت قوة الدول العربية المركزية، زادت قدرة واشنطن وتل أبيب على فرض نموذج الشرق الأوسط الجديد.
ليس المهم من يتولى الحكم ، بل الأهم أن تبقى المنطقة مفككة، مواردها خاضعة لرقابة القوى الكبرى، واقتصادها تابعاً للأسواق الخارجية لا لبناء الداخل.فبالنسبة للمنظومة الرأسمالية، لا قيمة لهوية الحاكم بقدر التزامه بخدمة مصالح الرأسمالية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وإلا فلن يسمح له بالإستمرار .
أين مقارنة ما جرى عام (1916) بما يجري اليوم تؤكد أن الاستراتيجية لم تتغير، لكن الأدوات تغيرت بعمق. في الماضي كانت التقسيم جغرافيا ً، أما اليوم فهو اقتصادي وظيفي، في الماضي كانت الجيوش التي ترسم الخرائط، أما اليوم ف الشركات الكبرى والبنوك والمؤسسات المالية، وشبكات التحالفات الأمنية، وطبعا الإعلام والتكنولوجيا، حيث انتقلت الأوليغارشية العائلية إلى اوليغارشية مؤسساتية . اوليغارشية الشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات التي تهيمن اليوم على حركة الاقتصاد العالمي ومن خلاله توجه سياسات حكومات الدول وتحدد مساراتها. إن ،الشرق الأوسط الجديد ، ليس مستقبلا يتم التخطيط له، بل أصبح واقعا يتشكل منذ سنوات، ومادام الاقتصاد العالمي يحتاج إلى أكثر من مئةمليون من النفط يوميا وم دامت الصين وأوروبا واليابان تعتمد اعتمادا شبه مطلق على هذه المنطقة، فإن القو ى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ستبقى حاضرة بقوة، الفرق هو أن الهيمنة اليوم لا تظهر على شكل خطوط مرسومة على الخرائط، بل على شكل سياسات اقتصادية أمنية تجعل الدول العربية تتحرك داخل إطار ضيق مصمم لها بعناية. إن أمريكا والقوى الغربية تهتم بالتحكم بمنابع الطاقة في الشرق الأوسط العربي، وذلك من أجل ضمان تدفق مستقر للطاقة للدول الصناعية الكبرى، التي تعتمد على النفط لاستمرار صناعتها ونموها الاقتصادي ، ومنع ظهور قوة منافسة، ((إذا أصبحت دول الشرق العربي مستقلة في إدارة مواردها، فقد تقيم تحالفات أو شركات مع دول صناعية خارج النفود الغربي، وهذا مرفوض من القوى العظمى التقليدية. ))وتحويل الدول المنتجة إلى وحدات اقتصادية تابعة، بمعنى تصبح وظائفها محصورة في تصدير الموارد، وليس تطوير صناعتها أو بناء اقتصاد داخلي مستقر.
وخلاصة القول أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد شرقاً أوسطياً مستقراً ، بل شرق أوسط تابعاً وخاضعاً لها . وهي تعتبر أن السيطرة على النفط والغاز هو مفتاح السيطرة على العالم وان إسرائيل وإيران تلعبان أدواراً تكاملية في إضعاف العرب ومنع وحدتهم وأن سايكس بيكو الجديد لا يرسم حدوداً بل يصنع تبعية اقتصادية ووظائف محددة لكل دولة عربية. خلال هذه المئة عام المنصرمة، إن العالم تغير تغييرا ً كبيرا جداً ، تغير علمياً وتقنياً وحضارياً ، ولكن منطقتنا لم تتغير، وهذا يعني أن المشروع الاستعماري تطور، بينما بقي النظام الرسمي العربي متأخراً منقسماً ، تابعاً ، بلا رؤية، لذلك تصنع القوى الكبرى مستقبل المنطقة وليس ابناؤها . إذا لم تتجاوز الدول العربية هذا النموذج، عبر بناء اقتصاد قوي والعمل على تنويع مصادر الدخل، وتطوير الصناعات المحلية، وتقوية مؤسسات الحكم الوطني، فإنها ستبقى وظائف في خارطة النفوذ العالمي
عمان
15/12/2025
