العجز والمديونية في ظل نظام فاسد
أ. د. محمد طاقة
يشهد العراق اليوم وضعًا ماليًا واجتماعيًا خطيرًا، إذ بلغ مجموع الدين العام (الداخلي والخارجي) ما يقارب (115) مليارات دولار، وفق البيان الرسمي الصادر عن البنك المركزي العراقي، حيث أكد فيه أن الدين الداخلي بلغ نحو (91) تريليون دينار عراقي أي ما يعادل (60) مليار دولار، والدين الخارجي نحو (55) مليار دولار.
هذا المستوى من المديونية يشير إلى وجود عجز مالي مقلق، ويضع الاقتصاد العراقي أمام مخاطر متعددة، لاسيما في ظل غياب الاستقرار الاقتصادي والفساد المستشري والنظام الريعي الأحادي.
تعد الموازنة العامة للدولة المرآة الحقيقية للوضعين الاقتصادي والمالي، إذ تعكس قدرة الحكومة على تحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات العامة.
في الحالة العراقية أظهرت الموازنات للأعوام الأخيرة عجزًا واضحًا ومتكررًا، ما يعكس هشاشة البنية الاقتصادية واعتمادها المفرط على إيرادات النفط التي تشكل أكثر من (90 ٪) من الإيرادات العامة.
فقد بلغ العجز في موازنة عام (2020) نحو (64) مليار دولار، وفي عام (2021) حوالي (49) مليار دولار، بينما سجل في عام (2023) عجزًا مقداره (49.5) مليار دولار، وفي عام (2024) بلغ (49) مليار دولار، ويُقدر في موازنة عام (2025) بنحو (48) مليار دولار.
ويعود السبب الرئيس لهذا العجز المزمن إلى التذبذب في أسعار النفط في الأسواق العالمية، الأمر الذي يجعل الاقتصاد العراقي رهينة لتقلبات السوق النفطية، ويظهر غياب التنويع الاقتصادي وضعف السياسات المالية التي من شأنها تحقيق الاستدامة في الإيرادات العامة.
لقد كان العجز المالي المزمن في الموازنات العامة أحد أبرز الأسباب المباشرة لتنامي المديونية في العراق خلال السنوات الأخيرة.
فمع تراجع الإيرادات النفطية وتذبذب أسعار النفط في الأسواق العالمية، اضطرت حكومات الاحتلال المتعاقبة في العراق إلى اللجوء إلى الاقتراض الداخلي والخارجي لتغطية النفقات الجارية، لا سيما الرواتب والدعم والخدمات الأساسية.
إن هذا المسار التصاعدي في العجز جعل الدين العام يتضخم بشكل مقلق في ظل غياب إصلاحات اقتصادية جذرية، قادرة على تنويع مصادر الدخل وتقليص الاعتماد شبه الكامل على النفط، ما جعل الاقتصاد العراقي عرضة للتقلبات الخارجية والأزمات المالية المتكررة.
تنقسم المديونية في العراق إلى مديونية داخلية وأخرى خارجية، ولكل منهما أثره المختلف في البنية الاقتصادية والمالية للدولة.
فالمديونية الداخلية تتمثل في الاقتراض من المصارف الحكومية والتجارية المحلية، إضافة إلى إصدار سندات خزينة تشترى من قبل البنوك ومؤسسات الدولة.
ورغم أن هذا النوع من الديون يُبقي الفوائد والأعباء داخل الاقتصاد الوطني، إلا أنه يؤدي بالمقابل إلى سحب السيولة من السوق المحلية، مما يحد من النشاط الاستثماري.
أما المديونية الخارجية، فتشمل القروض من الدول والمنظمات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فضلًا عن القروض الثنائية مع بعض الدول.
وتُعد هذه المديونية أكثر خطورة على السيادة الاقتصادية، إذ تخضع لالتزامات وشروط سياسية واقتصادية غالبًا ما تقيد السياسات المالية للحكومة وتضعف قدرتها على توجيه الموارد بما يخدم المصلحة الوطنية.
وقد أدى تراكم هذين النوعين من الديون نتيجة العجز المتكرر في الموازنات إلى ارتفاع كلفة خدمة الدين (الفوائد والأقساط) على نحو متزايد، مما يقلص الإنفاق الاستثماري ويفاقم التبعية المالية للخارج.
كما أن المديونية المتفاقمة في العراق لم تعد مجرد قضية مالية فحسب، بل تحولت إلى مشكلة بنيوية تمس جوهر التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
فاستمرار العجز والاقتراض لتسديد النفقات التشغيلية بدلًا من توجيهه نحو الاستثمار الإنتاجي أدى إلى إضعاف القدرة على تمويل مشاريع البنية التحتية (كالتعليم، والصحة، والإسكان، والطاقة…)، مما انعكس سلبًا على مستوى المعيشة ونوعية الخدمات العامة.
كما أن ارتفاع كلفة خدمة الدين (من فوائد وأقساط) بات يستنزف نسبة كبيرة من الإيرادات العامة، مما يحد من قدرة الدولة على توجيه مواردها نحو التنمية المستدامة وتنويع الاقتصاد.
إضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد المتزايد على القروض الخارجية جعل العراق خاضعًا لشروط مؤسسات التمويل الدولية التي تفرض غالبًا سياسات تقشفية مثل تقليص الدعم ورفع الضرائب وتجميد التعيينات، وهي إجراءات تعمق الفقر والبطالة وتزيد من الفوارق الاجتماعية.
وبهذا اصبحت المديونية أحد أهم العوائق أمام تحقيق السيادة الاقتصادية وبناء اقتصاد وطني متزايد قادر على تلبية احتياجات المجتمع وتحريره من التبعية.
إن معرفة الأسباب الحقيقية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع الكارثي ليست مجرد تشخيص، بل تمثل أكثر من نصف الحل، إذ إن من دون التوقف العميق عند جذور الأزمة، لا يمكن صياغة سياسة إصلاحية ذات صدقية أو تأثير.
وفي هذا الإطار يمكن تسليط الضوء على أهم الأسباب كما يأتي:
أولا: غياب فلسفة اقتصادية واضحة تحدد مسارات علمية لتنشيط الاقتصاد:
من أبرز أسباب الأزمة في العراق أنه لا توجد حتى الآن رؤية اقتصادية واضحة تعتمد على التنمية المستدامة وتحويل الاقتصاد العراقي من ريعي إلى منتج. فالاقتصاد العراقي يعتمد بدرجة فائقة على قطاع النفط، وهكذا تفتقر الدولة الى استراتيجية تنويع اقتصادي، تجعلها اقل عرضة للصدمات الخارجية (أسعار النفط وتقلبات الطلب).
تقرير صندوق النقد الدولي يشير إلى أن الاعتماد على النفط قد تفاقم وان السعر المطلوب لبرميل النفط لتحقيق التوازن في الموازنة ارتفع إلى نحو (84) دولارًا في عام (2024) مقارنة بـ(54) دولارًا في عام (2020).
وبحسب بيانات البنك العالمي فإن قطاع النفط يغطي أكثر من (90٪) من صادرات العراق، ويتحول إلى العمود الفقري للاقتصاد، ما يجعل البلاد في حالة تذبذب مستمر عند اي هبوط في سعر وانتاج النفط.
غياب الفلسفة الاقتصادية التي تشمل تنمية القطاع الخاص وتعزيز التصنيع والزراعة والخدمات، وإصلاح البنية التحتية، وربط التعليم بالاقتصاد، يجعل الدولة غير مستعدة لمواجهة التحديات، ويسهم في تراكم الدين كآلية لتغطية العجز المتكرر.
ثانيا: الفساد المالي والإداري غير المسبوق:
الفساد يُعد من أكبر الأعداء أمام التنمية في العراق، حين تستهلك الموارد في النفقات التشغيلية بطرق غير شفافة، ويُحوَّل تمويل المشاريع إلى محاصصة سياسية وعمولات، فإن العائد الاقتصادي يضعف وتزداد حاجة الدولة للتمويل الخارجي أو الداخلي.
هذا النوع من الممارسات يؤدي الى عدم كفاءة الانفاق، استثمارات تنفذ بشكل ضعيف أو تهمل، ما يقلل من العائد على الاقتراض ويزيد العبء المالي ، بالتالي الفساد المالي والاداري ليس مجرد ظاهرة جانبية بل محور رئيسي في تفسير لماذا وصلّت العراق إلى مديونية متصاعدة بالرغم من دخول النفط الضخمة من دون محاسبة وادارة رشيدة. فإن اي تمويل اضافي يتحول الى عبء وليس رافعة للنمو.
ثالثا: عدم التوافق بين السياسة المالية والنقدية:
احدى المعضلات التي تفجر العجز هي الفشل في تنسيق الأدوات المالية (ميزانية الدولة، الانفاق، الايرادات) مع السياسة النقدية (التحكم في كميات النقد، التضخم سعر الصرف، الاحتياطيات).
تشير تقارير صندوق النقد الدولي بأن التوسع المالي الكبير في السنوات الأخيرة – إنفاق ورواتب ومعاشات – جاء على حساب الاستدامة، ما جعل العراق أكثر عرضة للهبوط في اسعار النفط، كذلك ضعف الإيرادات غير النفطية (على سبيل المثال الايرادات الضريبية من القطاعات الاخرى، وبهذا تكون نسبة مساهمة الضرائب بمجملها 7 ٪ من مجموع الايرادات وشكلت الرسوم مانسبة1 ٪ من مجموع الايرادات العامة وتعد هذه النسب ضئيلة جدا وهذا يدل على ضعف الجهاز الضريبي ولم يتمكن من جباية الضرائب بنحو صحيح، فضلا عن التهرب الضريبي الواسع الى كثرة الاعفاءات الضريبية، التي شملت الكثير من الشركات الاجنبية العاملة في العراق وبالاخص الايرانية منها).
وهذا يعني أن الدولة لا تمتلك أدوات كثيرة للتعويض عند حدوث صدمة من الايرادات النفطية، نتيجة لذلك فإن سياسة مالية توسعية قد تتوافق مع سياسة نقدية ضعيفة، فيضغط على الدين الداخلي والخارجي من دون منشطات حقيقية للنمو.
رابعا: غياب القطاعات الاقتصادية والمهمة لتنشيط عجلة الاقتصاد (الزراعية الصناعة والخدمات) وانقاذ الاقتصاد من وحدانية الجانب:
كما سبق الاشارة الاقتصاد العراقي يكاد يكون اقتصاداً ريعيا محصوراً في النفط ، عدم توفر تنمية صناعية وزراعية وخدماتية تجعل الاقتصاد ضعيفاً من حيث التوسع، ويحد من قدرته على خلق الوظائف وتحقيق نمو مستمر.
تقرير النبك العالمي يؤكد الاعتماد على النفط وحده يجعل السوق العراق عرضه لتقلبات الاسعار ، حيث أن القطاع غير النفطي لا يزال محدوداً نسبيا.
فاذا كان القطاع الصناعي والزراعي والخدمي يعمل بشكل افضل، لكن بالامكان تحقيق الايرادات اكثر تنوعاً وتقليل الاعتماد على الدين ، وبالتالي غياب هذه القطاعات سبب مركزي في سياق تحدي المديونية والعجز.
خامسا: سوء إدارة الموارد المالية:
الموارد المالية (اي الايرادات والنفقات) تحتاج الى ادارة صارمة وشفافة بنفس الوقت، في العراق هناك ملامح تسلخ الادارة عن الربط ما بين الايرادات والنفقات وتوزيعها بطريقة علمية، على سبيل المثال ارتفاع النفقات التشغيلية حيث تشكل الان ( ٧٨٪) من اجمالي النفقات العامة والتي تمثل (الرواتب ، المعاشات ، التشغيل الاداري ) هذا ما يقلل من قدرة الدولة على توجيه الموارد إلى الاستثمار العام والبنية التحتية، كذلك، هناك ضعف في المراقبة والمحاسبة ما يؤدي إلى تسرب الإيرادات أو هدرها، وبالتالي اضطرار الدولة للجوء إلى الاقتراض.
إذ أن أي إدارة مالية غير فعالة تجعل الدين ضرورة اكثر منها خياراً، وتزيد من العبء د على الاجيال القادمة.
سادسا: تهريب العملات الصعبة إلى الخارجية:
أن خروج العملات الصعبة من العراق – سواء عبر التهريب أو التحويلات غير الشرعية – يضعف احتياطيات الدولة ويزيد الضغوط على سعر الصرف، الأمر الذي يمكن أن يعمق العجز ويجعل الاحتياطي النقدي اقل قدرة على التعامل مع الصدمات.
في بلد ريعي يعتمد بشكل أساسي على العملة الصعبة (دولار النفط) فإن أي تسريب يؤدي إلى ضعف القوة الشرائية للدينار ويضعف قدرة الدولة على تمويل الاستيراد أو خدمه الدين.
سابعا: الاسراف المفرط في حجم النفقات التشغيلية:
ارتفعت – كما ذكرنا- النفقات العامة التشغيلية بشكل كبير، بما في ذلك الرواتب والمعاشات والوظائف الحكومية التي غالباً ما تؤمن على اسس طائفية و المحاصصة بدلاً من الاداء والكفاءة. هذا الامر يقلل من قدرة الدولة على تركيز الموارد على النفقات الاستثمارية الضرورية لنمو الاقتصاد.
تقرير الصندوق (IMF) لعام (2024) أشار إلى أن الاجور والمعاشات وصلت الى نحو (20 ٪) من الناتج المحلي الاجمالي تقريبا حيث بلغت حصة النفقات التشغيلية بنحو (78 ٪) من أجمالي النفقات العامة، وهذا ما يؤكد أن الموازنات تعتمد على نفقات غير منتجة ولا تهتم بالانفاق على الأمور التنموية التي تعني بتطور البلد . وبنفس الوقت أن استمرار هذا الهيكل يجعل الميزانية اكثر هشاشة عند تراجع الإيرادات، الأمر الذي تضطر الدولة إلى الاقتراض الداخلي والخارجي لتغطية الفجوات.
ثامنا : التذبذب باسعار النفط:
رغم أن هذا العامل ليس من الفساد أو سوء الادارة مباشرة ، لكنه عامل خارجي حاسم في حالة العراق . بما أن الاقتصاد العراقي يعتمد بنحو (90٪) من الإيرادات على النفط، وهو ما تعتمده المصادر التي تؤكد أن النفط يشكل اكثر من ( 90 ٪) من الإيرادات فمثلاً تقرير يبين أن سعر برميل النفط المطلوب لموازنه الميزانية ارتفع الى (٨٤) دولار لسنة (٢٠٢٤) وهناك مصادر تتوقع انخفاض سعر البرميل الى نحو (62 – 66) دولار في السنوات المقبلة، مما يعني تراجعاً كبيراً في الإيرادات.
اذن تذبذب سعر النفط أو أنخفاضه يؤدي مباشرة الى تراجع الايرادات، ما يفاقم العجز ويزيد العبء إلى على الدين .
أن الوضع المالي للعراق ليس مجرد رقم كبير أو حالة عابرة، بل هو نتيجة تراكمات مركبة تشمل العجز البنيوي في الاقتصاد والتنمية وأخفاقات في الادارة وفسادا ادارياً ومالياً، وسياسات اقتصادية غير منسقة، مع اعتماد مفرط على عائدات النفط المتقلبة. أن ادراك هذه الاسباب- كما عرضنا- بشكل المدخل الاساسي لاي اصلاح فعلي.
بدون معالجة منهجية لفلسفة الاقتصاد، وتنمية القطاعات الانتاجية – وتعزيز الادارة المالية والنقدية ومحاربة الفساد فأن المديونية ستظل تشكل عبئاً مستمراً على الدولة والمجتمع.
تاسعًا: الحلول والمعالجات المقترحة:
لمعالجة أزمة المديونية والعجز المزمن في الموازنات العامة، لابد من تبني إصلاح اقتصادي شامل يعالج جذور المشكلة لا مظاهرها فقط.
ويبدأ ذلك من خلال تنويع مصادر الايرادات، وعدم الاعتماد المفرط على النفط، عبر تطوير قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة والطاقة المتجددة، بما يخلق قاعدة إنتاجية وطنية تسهم في زيادة الدخل القومي.
كما يجب إعادة هيكلة النفقات العامة، من خلال تقليص الانفاق الاستهلاكي والرواتب المبالغ فيها، وتوجيه الموارد نحو الاستثمار والبنية التحتية والخدمات الاساسية.
كذلك من الضروري، تعزيز كفاءة الإدارة المالية ومكافحة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، الذي يعد أحد الاسباب الرئيسة في هدر الموارد وارتفاع المديونية.
ويمكن تحقيق ذلك عبر تفعيل الرقابة البرلمانية والقضائية واعتماد الشفافية في عرض الموازنات والتقارير المالية.
أما في ما يخص الديون القائمة، فيجب إدارة الدين العام بحذر، من خلال التفاوض على إعادة جدولة القروض ذات الفوائد المرتفعة، وتجنب الاقتراض لأغراض استهلاكية قصيرة الأجل.
كما يمكن تشجيع الاستثمار المحلي والاجنبي المنتج بدل الاعتماد على القروض – شريطة أن يكون الاستثمار تحت رقابة الدولة وبما يخدم التنمية الوطنية.
أن الخروج من دوامة العجز والمديونية يتطلب ارادة سياسية جادة ورؤية اقتصادية وطنية تعيد توجيه الاقتصاد نحو الانتاج الحقيقي، وتضع مصلحة المواطن فوق الحسابات السياسية والفئوية، بما يضمن بناء اقتصاد قوي ومستقل قادر على تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.
