زهران ممداني.. حين يتحول المنصب المحلي إلى موقف إنساني عالمي
الدكتور رافع سحاب الكبيسي
باحث سياسي في الشأن الامريكي
في عالمٍ يزداد صمتاً أمام صرخات غزة والضفة، جاء فوز زهران كوامي ممداني بمنصب عمدة نيويورك كأنفاسٍ من هواء نقيّ في فضاءٍ خانق.
فبينما تتساقط القنابل على أطفال فلسطين، يرتفع في الجهة الأخرى من العالم صوتٌ أمريكيٌّ جريء يعلن أن العدالة لا يمكن أن تكون انتقائية، وأن دماء الأبرياء لا تُقاس بالهويات.
بالنسبة للفلسطينيين، بعد ان اعتادوا رؤية المسؤولين الأمريكيين يتسابقون لتبرير جرائم الاحتلال، وجدوا صوتاً من نيويورك يدافع عنهم حيث بدا فوز ممداني حدثاً استثنائياً.
ليس لأنه يملك مفاتيح السياسة الخارجية أو قرار الحرب والسلام، بل لأنه أول مسؤول كبير في مدينة محورية مثل نيويورك يجرؤ على قول الحقيقة: أن ما يحدث في فلسطين هو ظلم مستمر، وأن الصمت عليه شراكة في الجريمة، صوته، وإن جاء من آلاف الأميال بعيداً، حمل إلى الفلسطينيين معنى عميقاً:
أن العالم لم يفقد إنسانيته بعد، وأن هناك من داخل أمريكا نفسها من يرفض أن تُرتكب المجازر باسم “الأمن” و”الدفاع عن النفس”.
ما كان يوماً يُعدّ “منصباً إدارياً محلياً” أصبح اليوم مؤشراً على تغيّرٍ أعمق في الضمير الأمريكي، فاللوبي الصهيوني، الذي طالما شعر بالأمان داخل الساحة السياسية الأمريكية، يرى الآن أن أحد أهم معاقله – نيويورك – أصبحت تحت قيادة رجلٍ لا يخضع لابتزازه الأخلاقي ولا يخشى تسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين، فوز ممداني بالنسبة لهم جرس إنذار مؤلم: فالسردية التي سيطروا عليها لعقود بدأت تتهاوى أمام حقيقة لا يمكن حجبها إلى الأبد.
ومن بين ركام البيوت في غزة وأحزان المخيمات في الشتات، لا يُتوقع أن يغيّر هذا الفوز مسار الحرب أو يوقف الطائرات، لكنه غيّر شيئاً في قلوب الناس، لقد أعاد الإحساس بأن كلمة الحق ما زالت ممكنة، وأن هناك وجوهاً جديدة في الغرب تستطيع أن تقول “كفى” دون خوف أو تبرير.
إن مجرد وجود اسمٍ مثل زهران ممداني على رأس مدينةٍ بهذا الحجم يعني أن الأمل ما زال قادراً على أن يجد طريقه وسط كل هذا الظلام، إنه لا يحمل مفاتيح التحرير، لكنه يحمل رسالة أخلاقية: أن العدالة قد تتأخر، لكنها لا تموت، رغم اداركه أنه يقف في وجه عاصفةٍ هائلة، وانه سيُهاجَم، وسيُشوَّه، وقد تُحاك ضده حملات لإسقاطه. لكن حتى إن سقط، فقد كسر الصمت، وترك أثراً لا يُمحى في الوعي الأمريكي والعالمي، فصموده ليس مجرد اختبار سياسي، بل اختبار لإنسانية العالم الذي ما زال قادراً على أن ينحاز للحق في وجه القوة.
ونحن لسنا مع الأصوات التي تُجيّر هذا الحدث لصالح مكوّن أو مذهب، لأن في ذلك تبديداً لبريقه وديناميكيته.
ففوز ممداني هو فرصة لفهم حركة التاريخ، ولقطف الثمار لصالح الوطن والأمة، كما تبددت من قبل فرصٌ تاريخية ثمينة حين أُسِرَت في دوائر الانقسام والتعصّب.
إن هذا الحدث يجب أن يُقرأ بوصفه انتصاراً للإنسان أولاً، لا لطائفة أو جماعة، لأن قضيته هي قضية العدالة في وجه الظلم، والكرامة في وجه القهر.
وفي هذا الزمن الذي امتلأ بالخذلان، جاء فوز زهران ممداني ليقول إن العدالة قد تغيب عن القرار، لكنها لا تغيب عن القلوب، ولأول مرة منذ زمن طويل، شعر الفلسطينيون أن هناك من يتحدث بلغتهم الإنسانية من قلب نيويورك، لا من حدود غزة.
