القانون والذكاء الاصطناعي
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عربي
توطئة
“ستُحتلّ أراضينا وتطردنا من بيوتنا وتأكل طعامنا وتتزوّج نساءنا”، ذلك ما ذهب إليه فريق من الناشطين والمثقفين ودعاة السلام في الغرب في مقاربتهم للروبوتات والذكاء الاصطناعي. وكان الحديث عن الذكاء الاصطناعي في مطلع تسعينيات القرن المنصرم أقرب إلى سينما هوليود ذات الخيال العلمي الخارق، وأصبح في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين حقيقة قائمة ومجالًا واسعًا للتطوّر، ولديه قدرة فائقة على إحداث تغيير غير مسبوق في حياة البشر ومستقبلهم، سلبًا أو إيجابًا، في العمل والصحة والتعليم والمناخ ومكافحة الجريمة والحروب والعلوم وغيرها.
وحتى الآن لا يوجد تعريف جامع مانع لمفهوم الذكاء الاصطناعي، فهل هو جزء من علوم الكمبيوتر أو الرياضيات أو الفلسفة أو العلوم المعرفية أو علم النفس، أم أنه يمثّل جميع هذه العلوم؟ ولذلك يُصبح من الصعوبة بمكان الإحاطة بجميع تقنياته.
باختصار إنه ثورة تكنولوجية تفوق القدرات البشرية، وبالطبع فإن تغيير شكل التكنولوجيا سيؤدي إلى تغيير في منظومة القواعد القانونية وتطبيقاتها، ناهيك عن تغيير منظومة الأخلاق والقيم الإنسانية المعروفة.
وكان فردريك إنجلز قد قال: علينا تغيير استراتيجياتنا عند أي اكتشاف جديد للأسلحة، فما بالك حين يكون الاكتشاف من العيار الثقيل ومن وزن الذكاء الاصطناعي، الذي فاق حتى الآن أهم الاكتشافات العلمية العالمية وأبرزها، بل إنه تجاوزها بمديات بعيدة، لذلك علينا إعادة النظر بكل شيء ابتداءً من طريقة حياتنا إلى منظومة القيم القانونية والإنسانية لإحداث التوافق بينها وبين الاكتشافات الجديدة، خصوصًا تلك التي يصعُب التحكّم بها بشريًا، لدرجة يصبح قرار الحياة والموت والحرب والسلم مناطًا بيد آلات أو روبوتات، وأن دور الإنسان بالتحكّم فيها والسيطرة عليها سيضعف بعد تمكّنها، وتلقيمها بالمعلومات. وسيكون أي خطأ فنيّ بسيط قاتل ومهلك، وقد يؤدّي إلى دمار البشرية أو تشويه مسارها.
بهذا المعنى، فالذكاء الاصطناعي، هو علم وهندسة وفلسفة صنع الآلات والبرامج التي ستتحكّم بحياتنا، ويُعتبر حتى الآن التطور الأهم في القرن الحادي والعشرين، من خلال أنظمة التعليم الآلي الروبوتية، فضلّا عن التعرف على الصوت والصورة. وربما سيكون الشكل الجديد للحضارة الإنسانية، وما تزال المعرفة بالتقنيات الخاصة به محدودة، والدراسات القانونية شحيحة، فضلّا عن القواعد الناظمة لحركته غير متفق عليها بين القوى المتنفّذة على النطاق الدولي، الذي يزداد تعقيدًا في ظلّ السباق المحموم الأمريكي – الصيني.
الأخلاق والذكاء الاصطناعي
وبالطبع فإن هذه الأمور تثير مخاوف واسعة، لأن الجزء المعروف منه حتى الآن شحيح جدًا، ناهيك عن كونه ما فوق بشري. والخشية أن يوظّف الذكاء الاصطناعي للشرّ والحروب وضدّ البشرية ورخائها، ولا سيّما في الصراع الدولي أو النزاعات الداخلية، ناهيك عن استخدامه في نشر الكراهية والتعصّب ووليده التطرّف والعنف ونتاجهما الإرهاب، فضلًا عن أنه يمكن أن يستخدم لتصفية الحسابات في تزوير الحقائق وتشويه القيم وبث الافتراءات وهتك الأعراض والإفتئات على الناس، وبيع المعلومات الشخصية والعامة بما فيها ما يتعلّق بالأمن القومي والتلاعب بالأسرار.
باختصار فإن الذكاء الاصطناعي يغفل عن الجانب الأخلاقي، الذي يؤدّي إلى استباحة الخصوصيات، ولذلك ثمة سعي لوضع مبادئ خاصة كي لا يُوظّف الذكاء الاصطناعي لصالح الشر، علمًا بأن بعض الدول عملت على إدخالها في القوانين الوطنية، إضافة إلى أن ثمة مساعٍ لوضع مدوّنات دولية يتمّ الاتفاق عليها بما يضمن الحقوق الإنسانية، وأساسها الحفاظ على حق الحياة وتأكيد المساواة بين البشر واحترام الكرامة الإنسانية وعدم التمييز والحق في الخصوصية وحق الوصول إلى المعلومات واحترام حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وغيرها.
ويدعو الفريق الذي يريد “أنسنة” الذكاء الاصطناعي إلى ضرورة أن تكون نظمه منسجمة مع القيم الإنسانية والأخلاقية، مثل: قيم السلام واللّاعنف والتسامح والحرية والمساواة والعدالة والشراكة، إضافة إلى احترام التنوّع والهويّات الفرعية والخصوصيات الوطنية والمحليّة للمجموعات الثقافية.
وثمة مساع لوضع نظم قانونية وطنية ودولية فعّالة لمواجهة التكنولوجيا الخاصة بالذكاء الاصطناعي، علمًا بأن هناك بطئًا بالتدابير والإجراءات القانونية.
أما الفريق الذي يقدّم فوائد الذكاء الاصطناعي والاستفادة القصوى من إيجابياته فيقول: أنه سيكون عاملًا عظيمًا في تشخيص الأمراض وتوفير العلاجات والتنبؤات بتغيرات المناخ ومساعدًا كبيرًا على نشر التعليم ومكافحة الجريمة والقيام بمهمات فائقة الدقة والخطورة في ثواني. ويمكن جمع المعلومات عبر أجهزة رقمية منخفضة الكلفة وكذلك المساهمة في عملية التنمية.
وعلى الرغم من الوجه الإيجابي للذكاء الاصطناعي، فإن الوجه السلبي يبقى مرعبًا، ولا سيّما في مجال استخدامات الأسلحة والمراقبة الاجتماعية. والأمر لا يتعلّق بتأييده أو التنديد به، لأنه أصبح قدر البشرية ولا مردّ له، وهو يحمل أفضل ما في الاكتشافات العلمية وأسوأها في الآن، لذلك يقتضي “أنسنته” بجعله في خدمة البشر عبر اتفاقيات دولية وقوانين ملزمة، وإلّا ستكون النتائج وخيمة على البشرية.
قوننة الذكاء الاصطناعي
وقد بادرت أوروبا إلى وضع مشروع قانون أوروبي حدّد المبادئ التوجيهية للذكاء الاصطناعي العام 2019، لأنها تخشى من تفاقم الماراثون الأمريكي – الصيني في هذا المجال، لذلك فإن معهد مستقبل الحياة future of life Institute وهو معهد غير ربحي، كان قد دعا إلى وقف أنشطة الذكاء الاصطناعي لمدة 6 أشهر لوضع الضوابط، وإن كان هناك من لا يخفي مخاوفه من إساءة استعمال المواد القانونية لكي تخرج أوروبا من المنافسة الأمريكية – الصينية.
ودرس باحثون 200 وثيقة تتعلّق بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي وإدارته من 27 دولة و6 قارات، وصدر الإعلان البرازيلي في 13 تشرين الأول / أكتوبر 2023 بالتأكيد على الخصوصية والشفافية والمساءلة وأهمية توزيع فوائد الذكاء الاصطناعي بشكل عادل.
وانعقد في مونتريال (كندا) مؤتمر دولي (16 – 22 آب/ أغسطس 2025)، شارك فيه 6 آلاف خبير وباحث ومسؤول، وتناوب على منصته 200 متحدّث دولي من القطاعين الحكومي والخاص والمؤسسات البحثية العالمية، واستهدف المؤتمر دفع عجلة الابتكار وتعزيز التعاون وتبادل المعرفة وتوفير منصّة تتيح لصنّاع القرار استكشاف حلول مبتكرة ومشاريع عملية في مجال الذكاء الاصطناعي.
وإذا كان العالم المتقدّم يسير حثيثًا في طريق الذكاء الاصطناعي، فإن دول الجنوب مدعوّة للاستيقاظ من السبات الذي تعيش فيه لتطالب دول الشمال الاستجابة إلى مطالبها المشروعة بمشاركتها الفائدة وتقليل الأضرار.
جدير بالذكر أن اليونيسكو تتبوأ مكانة الصدارة في الجهود الدولية الرامية إلى ضمان تطوّر العلوم والتكنولوجيا وفقًا لضوابط أخلاقية، ومنها الذكاء الاصطناعي.
وتمتاز علاقة القانون الدولي وحقوق الإنسان بالذكاء الاصطناعي بخصوصية لأنه ذات طبيعة مزدوجة، فتطوير بعض أنواع الأسلحة وفقًا للذكاء الاصطناعي سيكون مخالفا ﻟ: اتفاقيات لاهاي 1899 – 1907 واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، وملحقيها: الأول – الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة؛ والثاني – الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية
وثمة مخاوف قانونية وحقوقية أخرى منها: الاضطرابات في العلاقات الدولية على الصعيد العالمي، واختلال علاقات المواطن بالدولة، وهناك خشية من الفواعل من غير الدول (الشركات/ الكارتيلات) في أن تكون هي المتحكّمة بالذكاء الاصطناعي (مراكز قوة في المجتمع الدولي وداخل الدولة بالنسبة للقوانين الوطنية)، بحيث تؤدي إلى اختلال التوازنات القائمة.
إن اكتشاف منظومة جديدة من الأسلحة الصناعية يجعل التحكم بها بشريًا صعبًا، ناهيك عن تعارضها مع القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية المتعارف عليها، وتلك تحدّيات جديدة أمام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، سواء في وقت السلم أو في وقت الحرب، لاسيّما عدم التمييز بين المدنيين والمتحاربين. وكلّ ذلك بالطبع سيؤدّي إلى تهديد السلم والأمن الدوليين بالسباق المحموم لدخول عالم الذكاء الاصطناعي، خصوصًا من جانب القوى المتصارعة على الصعيدين الدولي والداخلي.
القانون والواقع
والسؤال الكبير الذي يواجه الباحث: ما جدوى القواعد القانونية الوطنية والدولية إذا كانت القوى المتنفّذة لا تلتزم بها؟ فالكثير من القوانين والاتفاقيات الدولية توضع على الرف حين تتعارض مع القوى المتسيّدة.
ويدرك الباحث أن ثمّة إشكالية تتعلّق بمدى وضع قواعد القانون الدولي موضع التطبيق الفعّال والفاعل نظرًا لغياب سلطة عليا تستطيع إلزام القوى التي تنتهك قواعده، ولكن الدول النامية ستكون بموقع أضعف فيما إذا غابت مثل هذه القواعد، حيث سيُترك الحبل على الغارب، وسوف لا يكون العالم أفضل ممّا هو عليه، بل أن الخطر سيكون أكبر والفوضى أعم والتحكّم بمصائر البشر أشمل، وتكمن قوّة الضعفاء التمسّك بالقانون، وليس العكس.
ولعلّ تلك المحاذير والتحدّيات التي تواجه المصير البشري تتطلّب: دعوة المجتمع الدولي والدولة (على الصعيد الوطني) بإلحاح إلى حماية السلم العالمي والأهلي في ظروف الاكتشافات التكنولوجية الحالية والمستقبلية. ولا بدّ من إنشاء جهاز دولي فعّال وجهاز وطني مختص للإشراف على الذكاء الاصطناعي، وهناك دولًا أسّست وزارات لتنظيم التطور الكبير الحاصل في هذا المجال. كما يقتضي الأمر وضع قواعد تنظيمية لاستخدامات الذكاء الاصطناعي وطنيًا ودوليًا.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن القواعد الحالية غير كافية بخصوص تنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي وتقنياته، الأمر الذي يتطلّب بلورة اتفاقية دولية لتنظيم الأسلحة الخاصة بالذكاء الاصطناعي وفقًا للشفافية والمراقبة واعتماد تطبيقاته فيما يتعلق بالقواعد الآمرة في القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي. وقد يكون مناسبًا اعتماد ميثاق أخلاقي للقواعد التي ينبغي أن تحكم الذكاء الاصطناعي، وهي دعوة موجهة لمناشدة رؤساء الدول من جانب كبار المثقفين وقادة الرأي ودعاة السلام في العالم.
جدير بالذكر أن ثمة مؤشرات عالمية للذكاء الاصطناعي وتٌعتبر الولايات المتحدة هي الأولى فيه تليها الصين ثم سنغافورة. أمّا عربيًا فتحتل المملكة العربية السعودية المرتبة رقم 14 في المؤشرات العالمية، وتعقبها دولة الإمارات العربية المتحدة التي تحتلّ المرتبة رقم 20.
إن تطوير التشريعات الدولية للذكاء الاصطناعي وتنفيذها يُعدّ خطوةً مهمةً للحدّ من التحديّات الكبرى، خصوصًا إذا ما وُضع إطار قانوني شامل وموثوق، وعندها يمكن للبشرية من تعزيز الابتكار والتنمية المستدامة دون إهمال الجوانب السلبية التي جرى ذكرها.
الأصل في هذا النص محاضرة ألقاها الكاتب في قاعة أمينة الرحّال بمقر نقابة المحامين العراقيين (بغداد – 7 تشرين الأول / أكتوبر 2025).
