Skip links

عجز في الموازنة” وشكوى من السيولة.. فمن أين تأتي مليارات السفر والحمايات للمسؤولين؟

مقالات

صادق الازرقي

يقول “مرصد إيكو عراق” أن الصرفيات الفعلية لرئاسة جمهورية العراق بلغت نحو 4 مليارات دينار شهريا، اذ تمثل 99% منها نفقات تشغيلية (رواتب، سفر، مستلزمات إدارية وحماية)، موضحا أن “إجمالي الصرفيات في السبعة أشهر الأولى من العام الحالي بلغ 27,655,686,533 دينارا”، من دون ان يقابل ذلك مشاريع تنفيذية بارزة، وأضاف المرصد إن “هذا التفاوت الكبير بين حجم الصرف وطبيعة النشاطات يثير تساؤلات حول كفاءة إدارة الأموال العامة وفعالية الإنفاق الحكومي

فإلى أي مدى تعد تلك الصرفيات لرئاسة الجمهورية وغيرها للسلطات التنفيذية منطقية، وكيف يجري التصرف بأموال العراق، في الوقت الذي يشدد فيه المسؤولون على ضرورة ترشيد الانفاق ويشكون من عجز الخزينة وقلة السيولة المالية لدى الدولة، ومن الديون؟

تثير الصرفيات المرتفعة لرئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية في العراق، لاسيما تلك التي تتسم بغلبة النفقات التشغيلية من دون أن يقابلها مشاريع تنفيذية بارزة، قضايا جدية بشأن منطقية وكفاءة الإنفاق الحكومي في البلاد.

إن التساؤل بشأن منطقية هذه الصرفيات ينبع من عدة عوامل، أولها ارتفاع النفقات التشغيلية، اذ ان البيانات التي ذكرها مرصد “إيكو عراق” تظهر أن 99% من صرفيات رئاسة الجمهورية هي نفقات تشغيلية (رواتب، سفر، مستلزمات إدارية وحماية).

وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وشكاوى المسؤولين من عجز الخزينة وقلة السيولة المالية وتراكم الديون، يعد هذا التركيز الكبير على النفقات غير المنتجة مؤشرا سلبيا على كفاءة إدارة الموارد.

وتعد الرواتب والحماية والسفر من النفقات الضرورية لتسيير عمل المؤسسة، ولكن الحجم الكبير لهذه النفقات (4 مليارات دينار شهريا) يثير التساؤلات المتعلقة بمدى ترشيدها، بخاصة إذا ما قورنت بضآلة مخرجاتها التنموية أو الخدمية الملموسة للسكان.

يفاقم الأمر عدم مقابلة هذه المبالغ الضخمة بمشاريع تنفيذية بارزة؛ فمنطق الإنفاق الحكومي السليم يقتضي أن يتوازن الإنفاق الجاري (التشغيلي) مع الإنفاق الاستثماري (المشاريع)، لضمان النمو الاقتصادي وتحسين الخدمات.

كما يتناقض ذلك مع خطاب الترشيد، اذ ان إصرار المسؤولين على ضرورة ترشيد الإنفاق والحديث عن عجز الخزينة يقابله مستوى عالٍ من الإنفاق على الرئاسة والسلطات التنفيذية، مما يخلق فجوة ثقة ويجعل خطاب الترشيد يظهر غير صادق أو غير مطبق على أعلى المستويات.

يمتلك العراق أجهزة رقابية مثل ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، فضلا عن دور السلطة التشريعية (مجلس النواب) في إقرار الموازنة ومراقبة أوجه الصرف، ولكن تكرار تلك الحالات يشير إلى ضعف في تفعيل أو تأثير هذه الآليات الرقابية بشكل كاف لضمان كفاءة الإنفاق.

يجري التصرف بأموال العراق الحكومية بشكل عام عبر آليات محددة، لكن يواجه هذا التصرف تحديات خطيرة، ففيما يتعلق بالإطار الرسمي (الموازنة العامة)، يفترض أن يجري التصرف وفقا لقانون الموازنة العامة الاتحادية، الذي يمر بمراحل اعداد تقوم به السلطة التنفيذية (وزارة المالية ومجلس الوزراء)، ويقرها مجلس النواب، الذي له صلاحية المناقلة بين الأبواب والفصول، والتخفيض في المبالغ.

ومن ثم التنفيذ، تقوم به الوزارات والهيئات الحكومية (السلطة التنفيذية)، وأخيرا الرقابة اللاحقة: تجري من قبل ديوان الرقابة المالية ومجلس النواب.

ما يثير الجدل بشأن الصرفيات المذكورة هو أن جزءا كبيرا من أموال العراق، بما في ذلك مخصصات السلطة التنفيذية، يعاني من مشكلات هيكلية، تتعلق بسيطرة الإنفاق الجاري، اذ تشير الدراسات والتقارير إلى أن الإنفاق الجاري (الرواتب والمنافع الاجتماعية والخدمات) يهيمن على الموازنة، مما يترك حصة قليلة للإنفاق الاستثماري الذي يحقق التنمية المستدامة ويطور البلد.

ويعاني الإنفاق الحكومي في العراق من تحديات تتعلق بـالهدر المالي والفساد الإداري والمالي، الأمر الذي يؤدي إلى صرف مبالغ كبيرة من دون تحقيق القيمة المضافة أو النتائج المرجوة.

وقد تؤدي التوافقات السياسية والتعقيدات الإدارية إلى تضخيم النفقات في بعض المؤسسات على حساب كفاءة الأداء أو الحاجة الفعلية، كما أن ضعف الرقابة الآنية والسنوية يسهل سوء إدارة الأموال العامة.

إن التباين بين الشكوى من العجز المالي والمحافظة على مستويات إنفاق مرتفعة وغير منتجة في المؤسسات العليا يؤكد على تواجد أزمة في أولويات الإنفاق وكفاءة الإدارة المالية في البلاد.

ما أثير بشأن صرفيات رئاسة الجمهورية العراقية يعد مؤشرا على غياب الكفاءة والرقابة، ويزداد وضوح التباين عند مقارنة ذلك بآليات شفافة وخاضعة للرقابة الصارمة المتبعة في دول أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، اذ تحدد موازنة الرئاسة الأمريكية، عملية رقابة مشتركة.

في ذلك البلد لا يجري تخصيص الأموال للرئاسة بشكل اعتباطي، بل هي جزء من عملية الموازنة الفيدرالية الضخمة التي تخضع لرقابة متبادلة صارمة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

المقترح الأولي هو رئيس الجمهورية (بمساعدة مكتب الإدارة والميزانية OMB) يقدم الرئيس طلب الميزانية إلى الكونغرس (عادة في شهر شباط من السنة)، هذا الطلب يحدد أولويات الإنفاق، بما في ذلك المبالغ المخصصة للمكتب التنفيذي للرئيس (EOP) الذي يشمل البيت الأبيض.

التشريع والاعتماد يجري من الكونغرس (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) وهو صاحب الكلمة الأخيرة؛ والكونغرس هو من يمتلك سلطة الاعتمادات المالية بموجب الدستور، ولجان الاعتمادات في الكونغرس تقسم ميزانية الرئيس إلى 12 مشروع قانون للإنفاق (Appropriations Bills)، وتجري عليها التعديلات المطلوبة.

وفي الامر قيود وصلاحيات الكونغرس/الرئيس؛ ولا يلتزم الكونغرس بخطة الرئيس، ويمكنه زيادتها أو تخفيضها، ويمتلك الرئيس حق النقض (الفيتو) على مشاريع قوانين الإنفاق، مما يعطيه نفوذا، ولكن الكونغرس يمكنه تجاوز الفيتو.

الصرف لا يجري إلا بموجب قانون (Appropriations made by Law)، بمعنى أن الأموال المخصصة للرئيس وموظفيه ومهامه يجب أن تكون معتمدة قانونيا من قبل الكونغرس.

وتتوزع النفقات الرئاسية في الولايات المتحدة على أوجه محددة، وهي في الغالب نفقات تشغيلية ضرورية لضمان سير عمل المؤسسة الرئاسية، لكنها تدار وفق مبدأ الشفافية والمساءلة: المكتب التنفيذي للرئيس: يغطي موازنة رواتب موظفي البيت الأبيض، المستشارين، ومصاريف تشغيل الإدارات المساعدة للرئيس، يجري نشر كشوفات رواتب موظفي البيت الأبيض علنا وبشكل دوري.

أمن وحماية الرئيس: يتولى جهاز الخدمة السرية (Secret Service) مسؤولية حماية الرئيس وأسرته، ونفقاتهم تندرج ضمن موازنة وزارة الأمن الداخلي، وتعد نفقات حتمية للوظيفة، وليست أموالا ممنوحة لرئاسة الجمهورية، مثلما هو عليه الحال في العراق.

تحدد النفقات الشخصية والرسمية للرئيس براتب على وفق قانون الكونغرس، وهو راتب سنوي ثابت (400,000 دولار) يصرف كراتب منتظم “أي نحو 33 الف دولار شهريا”، ولنقل للتوضيح، انه يعادل 44 مليون دينار عراقي بحسب سعر الصرف الرسمي (وليس مليارات من الدنانير؛ ملاحظة: المليار 1000 مليون) ولك ان تحسب المليارات الأربعة بالدنانير بالمليون لدى رئاسة العراق.

ميزانية السفر والتنقل للرئيس الاميركي مخصصة للاستعمال الرسمي (طائرة الرئاسة Air Force One، وطائرة المارينز Marine One)، وتخضع لرقابة مشددة، ولا تصرف أموالها مباشرة الى الرئيس.

الرقابة على الصرف: فضلا عن الرقابة التشريعية، تعد الولايات المتحدة من الدول التي تفرض شفافية عالية على أوجه الإنفاق الفيدرالي عبر نشر البيانات، وتخضع لتدقيق من هيئات مستقلة.

مؤشر المقارنة: رئاسة الجمهورية في العراق (بحسب ما أورده مرصد إيكو عراق) ورئاسة الولايات المتحدة الأمريكية:

في الولايات المتحدة السلطة المحددة للموازنة هو الكونغرس الأمريكي (صاحب الكلمة الفصل في الاعتمادات).

في العراق السلطة المحددة للموازنة هي السلطة التنفيذية/مجلس النواب (مع إشارات لضعف الرقابة الفعلية).

طبيعة الإنفاق المرتفع؛ في العراق 99% نفقات تشغيلية (رواتب، سفر، حماية، الخ) من دون مشاريع تنفيذية، ومن دون محددات.

في اميركا نفقات تشغيلية أساسية ومحددة سلفا في قوانين الاعتمادات، مع نشر كشوفات للموظفين والرواتب.

منطق الصرف في العراق، تباين كبير بين حجم الصرف وفعالية النشاطات (مما يثير تساؤلات).

في الولايات المتحدة: صرامة في تحديد الأوجه وضمان الشفافية والمساءلة لكل دولار يُصرف.

إن الفرق الأساسي لا يكمن فقط في حجم المبلغ، بل في منظومة الرقابة المالية والمساءلة الدستورية؛ ففي النظام الأمريكي، تضمن الآليات الدستورية أن أي إنفاق، حتى على رأس السلطة التنفيذية، يجري بموافقة السلطة التشريعية وينشر بشفافية عالية، مما يحد من فرص الهدر وسوء الإدارة، ويؤمن الكفاءة في التصرف بالأموال ويتجنب المشكلات التي من الممكن ان تتعرض لها البلاد.

اترك تعليقًا

عرض
Drag