Skip links

مع استئناف “الرسائل الثقيلة”.. المرشد يتحدث بلغة ما قبل الحرب

تقارير

شفق نيوز- بغداد/ طهران

في قلب طهران، تبدو الشوارع مزدحمة كالعادة، لكن الوجوه منشغلة بالإنصات إلى ما يجري داخل القصر الرخامي في جنوب العاصمة، حيث تُطلق الكلمات بميزان دقيق، محمّلة بشحنة كافية لتغيير المزاج الإقليمي.

في المقاهي القديمة قرب ساحة انقلاب، تتردد عبارة المرشد الأعلى: “احلم يا ترمب”، بينما تبثّ الشاشات تصريحات متلاحقة لكبار القادة الإيرانيين، يتأرجحون فيها بين التهديد والحديث عن السلام.

وسط هذا، يطلّ حسن روحاني بملامح هادئة وصوت بارد يتحدث عن “مخاطر اليوم التالي”، كمن يذكّر الجميع بأن الهدوء لا يعني النهاية. كل شيء في المدينة يوحي بأن الصمت الذي خيّم بعد الحرب لم يكن سلامًا، بل استراحة بين فصلين من الحكاية نفسها.

ترمب يتباهى وخامنئي يرد

وبعد شهور من الصمت الذي تبع الحرب القصيرة بين إيران وإسرائيل في حزيران/يونيو الماضي، عاد المرشد الأعلى علي خامنئي إلى المسرح السياسي بصوت بدا أكثر حدة من المعتاد.

ففي الوقت الذي كان فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتباهى في الكنيست بأن بلاده “دمرت البنية النووية الإيرانية بالكامل”، كان خامنئي يرد من مكتبه في جنوب طهران قائلاً: “إنهم يعيشون وهماً… يجاهر الرئيس الأميركي بفخر أنه قصف القطاع النووي الإيراني ودمره… حسنًا استمروا في أحلامكم“.

وفي اللحظة التي كان فيها المرشد يلوّح برسالة الردع، ظهر وجه آخر من النظام الإيراني أكثر براغماتية يتمثّل بالرئيس الأسبق حسن روحاني، حيث تحدث عن “الردع” لا بوصفه سلاحًا، بل كمنظومة فكرية وإستراتيجية تمنع الحرب قبل أن تقع. قال: “إذا وُجد الردع، فلن تقع حرب. الحرب تندلع فقط عندما يُشكَّك في الردع“.

هكذا عادت طهران إلى واجهة المشهد، بخطابين متكاملين، خامنئي يتحدث بلغة التحدي، وروحاني بلغة الحساب. بينهما تتحرك مؤسسات الدولة كمن يرسم خريطة جديدة للمنطقة حيث توازن بين القوة والتحفظ، بين الغضب والعقل، وبين الحرب واللا حرب.

بغداد وموسكو إلى الواجهة

ومن بين هذه الأصوات كلها، يظهر العراق من جهة، وروسيا من جهة أخرى كلاعبين صامتين في مسرح مفتوح على كل الاحتمالات، بينما يراقب العالم ما إذا كانت رسائل طهران الجديدة مقدمة لمرحلة تهدئة، أم بداية فصل آخر من اشتباك مؤجل لم تنتهِ فصوله بعد.

حضر مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي في زيارة حملت أكثر من عنوان. رسمياً، كانت لمتابعة اتفاق أمني بين البلدين، عملياً، كانت رسالة تفيد بأن بغداد ما زالت تشكل منطقة العزل الأولى في أي مواجهة محتملة بين إيران والغرب.

الأعرجي التقى الرئيس مسعود بزشكيان، وقائد الحرس الثوري اللواء محمد باكبور، ورئيس الأركان الفريق عبدالرحيم موسوي، الصور الرسمية أظهرت وجوهًا مبتسمة، لكن المضمون حمل تساؤلاً أكبر: هل العراق أصبح جزءًا من معادلة الردع الإيرانية الجديدة؟

الرئيس بزشكيان أكد أمام ضيفه العراقي أن “إيران تتعامل مع العراق بوصفه شريكًا في الأمن الإقليمي، لا مجرد جار”، داعيًا إلى “منع القوى الأجنبية من تحويل أراضيه إلى منصة لأي اعتداء على طهران”.

 أما قائد الحرس الثوري محمد باكبور فقال إن “أمن العراق من أمن إيران، وأي تهديد ينطلق من أرضه سيتعامل معه الإيرانيون بجدّية كما لو كان موجّهًا إليهم مباشرة”. كما أضاف أن “ما جرى في الحرب الأخيرة كان درسًا كافيًا للجميع بأن إيران لن تسمح بتكرار أخطاء الماضي”.

الفريق عبدالرحيم موسوي شدّد من جانبه على “ضرورة تفعيل الاتفاق الأمني الموقّع بين البلدين عام 2023، وتوسيع التعاون في مجالات المراقبة الحدودية والدفاع الجوي”، مشيرًا إلى أن “المرحلة المقبلة تتطلب تنسيقًا أكثر دقة بين القيادتين العسكرية والأمنية في بغداد وطهران“.

بهذه التصريحات، لم يكن اللقاء بروتوكولًا عابرًا، بل إعلانًا صريحًا عن تماسك جبهة جديدة في الشرق الأوسط، حيث تتداخل خطوط الأمن بين بغداد وطهران، وتُرسم خرائط الردع بملامح عراقية–إيرانية مشتركة، في وقت تحاول فيه المنطقة بأكملها أن تتنفس ما تبقّى من الهدوء قبل أن تعود العاصفة.

وفي اليوم نفسه تقريبًا، وصل إلى طهران ألكسندر لافرنتييف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي، حاملاً رسالة واضحة أن موسكو ترى في إيران “شريكًا استراتيجيًا في الدفاع عن الاستقرار الإقليمي“.

ورغم دفء اللقاءات الأخيرة بين طهران وموسكو، فإنّ أوساطًا سياسية إيرانية لا تُخفي امتعاضها من الموقف الروسي خلال حرب الـ12 يوماً.

فداخل بعض دوائر الحرس الثوري ووسائل الإعلام المحافظة، يُوجَّه اللوم إلى موسكو لأنها “اختارت الحياد في لحظة كانت إيران تتعرض فيها لهجوم مباشر”.

الغرب أمام إيران

هذا المشهد المتشابك يأتي مع تصريح الرئيس الأسبق حسن روحاني ليمنح هذا المفهوم نبرة مختلفة: “إسرائيل لطالما أرادت الحرب معنا، والولايات المتحدة تدرّبت عليها منذ 22 عاماً، لكنّهم لا يهاجمون إلا حين يشعرون أن التوازن اختلّ“.

في الحرب الأخيرة يضيف، شارك حلف الناتو فعلاً عبر تفويض غير معلن، حين “نفذت إسرائيل الهجوم نيابة عن الغرب”. ويستطرد قائلاً إن الأوروبيين أنفسهم اعترفوا بذلك “حين قالوا إن إسرائيل نفّذت انتقاماً بالوكالة“.

تلك الرواية تُعيد رسم ملامح الحرب الأخيرة كما تراها طهران حيث معركة لم تُخض ضد إسرائيل وحدها، بل ضد منظومة كاملة من القوى الغربية. وهي لغة تعبّر عن رؤية أمنية ترى أنّ المواجهة المقبلة إن حدثت ستكون شاملة، لا تُحسم في الجو أو البحر فقط، بل عبر معادلة متعددة الجبهات تتوزع عبر مضيق هرمز إلى الأراضي العراقية والسورية، وصولاً إلى شبكات الملاحة في البحر الأحمر.

المحلل السياسي الإيراني سعيد الشارودي يقول إنّ “تصريحات خامنئي تعني بوضوح أن إيران لا نية لها للتراجع عن موقفها النووي، وهي تريد إيصال رسالة إلى خصومها بأنها قادرة على حماية نفسها وشعبها وبرنامجها النووي مهما كانت التهديدات“.

ويرى خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، أن “إيران لم ترفع منسوب التصعيد، لكنها أيضاً لم تُبد أي استعداد للتنازل”، مضيفًا أن “الدعم الروسي والعراقي الأخير يعزز ثقة طهران بأن الخيار العسكري ضدها أصبح أكثر تكلفةً من أي وقت مضى“.

ويذهب الشارودي أبعد من ذلك، محذرًا من أن “أي مغامرة جديدة من قبل نتنياهو أو ترمب ستكون مكلفة جداً، لأن إيران هذه المرة لن تلتزم بقواعد الاشتباك القديمة، وستستخدم أسلحة وصواريخ محسّنة لم تُستخدم في حرب الـ12 يومًا“.

أما الدكتور جلال جراغي، مدير مركز آفاق للدراسات الإيرانية–العربية في طهران، فيرى أن “احتمالية المواجهة لا تزال قائمة، لأن إسرائيل لم تحقق أهدافها الرئيسية، وعلى رأسها إسقاط النظام أو شلّ قدراته“.

ويضيف لوكالة شفق نيوز، أن “إيران تبنّت بعد الحرب سياسة الغموض: فهي تقول في العلن إن منشآتها النووية دُمّرت، لكنها تؤكد في الوقت نفسه أن الهجوم لم يكن ناجحًا، وهو ما يُربك خصومها ويدفعهم إلى التردد في شنّ هجوم جديد“.

جراغي يربط هذه الاستراتيجية بالتوجّه الإيراني نحو الشرق، موضحًا أن “روسيا والصين تنظران إلى إيران كحلقة وصل جغرافية في مشروعاتهما المشتركة، ولذلك تُرسلان تعزيزات عسكرية وتسليحية لتقوية دفاعاتها الجوية تحسبًا لأي مواجهة جديدة مع الغرب“.

لكنّ واشنطن وتل أبيب، من جانبهما، لا تُخفّفان نبرتهما. الرئيس ترمب يواصل التأكيد على “نجاح الضربة ضد إيران”، فيما تتحدث وزارة الدفاع الأميركية عن “إعادة تقييم للردع الإيراني”. وفي إسرائيل، يقول نتنياهو إن “إيران تعافت أسرع من المتوقع، لكنّ إسرائيل جاهزة لجولة ثانية إن لزم الأمر“.

الواقع أن طهران تتعامل مع هذا التهديد بطريقة أقرب إلى الشطرنج منها إلى المناورات العسكرية. فإلى جانب تسليحها وتطويرها الدفاعي، تعمل على بناء طبقة دبلوماسية واقتصادية تحميها من الاختناق حيث تعزيز العلاقات مع موسكو وبكين، وتمتين الروابط مع بغداد، وتحويل علاقاتها النفطية إلى أدوات للضغط لا للتنازل.

المنطقة كلّها تقف على حافة ميزان دقيق. فإيران تشدّ خيوط اللعبة نحو الشرق حيث موسكو وبكين، بينما تراقب واشنطن من بعيد وتحاول تل أبيب استعادة تفوقها الميداني. أما بغداد، التي كانت يوماً ميدان نزاعات الآخرين، فهي اليوم تقف على خطّ صامت يفصل بين حربين.

اترك تعليقًا

عرض
Drag