Skip links

القانون الذي لا يشيخ.. المفصولون السياسيون يعودون جيلاً بعد جيل

تقارير

على مدى عقدين، ظل قانون واحد يفتح بوابات الدولة العراقية على مصراعيها، وهو قانون إعادة المفصولين السياسيين. ما بدأ بوصفه محاولة لإنصاف المتضررين من نظام صدام حسين، تحوّل اليوم إلى واحد من أكثر الملفات غموضاً واستنزافاً في المالية العامة، يضم أكثر من 260 ألف موظف ومتقاعد، ويستمر في التمدد بلا سقفٍ زمني واضح.

في عام 2005، وبعد سقوط النظام السابق بعامين، شرّع البرلمان العراقي قانوناً لإعادة من فُصلوا لأسباب سياسية أو عرقية أو مذهبية، أُنشئت لجنة متخصصة تحت مظلة الأمانة العامة لمجلس الوزراء لمراجعة الطلبات وتثبيت الحقوق. وبعد عشرين سنة، ما زالت تلك اللجنة تعمل، وتستقبل طلبات جديدة، بعضها يعود لأشخاص وُلدوا في أواخر الثمانينيات، أي أنهم لم يكونوا ضمن من فُصلوا فعلياً قبل 2003.

مسؤول في دائرة شؤون المفصولين السياسيين يتحدث لوكالة شفق نيوز عن هذه الفقرة الإشكالية “هؤلاء لا يُعتبرون مفصولين بالمعنى المباشر، لكنهم يُدرجون ضمن المشمولين بالاستحقاق استناداً إلى صلة القرابة بأحد المفصولين السياسيين حتى الدرجة الرابعة، وفق ما يسمح به القانون“.

بالمقابل، فإن الأرقام وحدها تكشف حجم التضخم، 260 ألف حالة إعـادة أو إحالة للتقاعد، و125 ألف معاملة ما تزال قيد الإنجاز، وفق بيانات رسمية حصلت عليها وكالة شفق نيوز. ومع استمرار فتح الاستمارات، يُتوقع أن يتجاوز العدد الإجمالي هذا العام 400 ألف مستفيد.

هذا “الملف الخطير”، كما يصفه المحلل السياسي مجاشع التميمي، يمثل عبئا كبيرا على الموازنة العامة للبلاد، ويفتح بابا واسعا للفساد والمحاصصة.

وبحسب تصريح التميمي، لوكالة شفق نيوز، فإن “ما يسمى بالمفصولين السياسيين”، أثير حولهم الكثير من الجدل، فمن غير المنطقي ونحن في عام 2025، أن يبقى هذا الملف مفتوحا.

ويتزامن هذا الملف والأموال التي تخصص له عبر التعيينات الجديدة، مع أزمات اقتصادية يعاني من العراق ونسبة بطالة متصاعدة، ولاسيما أن البلد شهد طيلة السنوات الماضية تظاهرات لخريجين للمطالبة بالتعيين، فيما تكشف الوثائق الصادرة عن الدائرة، أن المفصولين وذويهم الذين يتم تعيينهم أغلبهم “دون مؤهل دراسي”، واغلب عناوينهم الوظيفية هي “فني أو معاون فني“.

التضخم في التعيينات انعكس مباشرة على الرواتب الحكومية، إذ أعلن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني العام الماضي أن كلفة الرواتب قفزت إلى 90 ترليون دينار، بعدما كانت نحو 60 ترليون فقط، ما يعني أن الدولة باتت تنفق على الرواتب أكثر من ثلث موازنتها السنوية.

ويرى التميمي، أن من المشاكل، هو إعادة الهاربين والمفصولين “دون معايير واضحة”، وهذه “ليست عدالة”، بل تكريس لنهج الفساد السياسي الذي يستنزف موارد الدولة ويقيد مستقبل الأجيال المقبلة، بحسب قوله.

ما الذي يجري الآن؟

في مطلع تشرين الأول/أكتوبر الجاري، اجتمع رئيس مؤسسة الشهداء مع دائرة المفصولين السياسيين لإطلاق استمارة جديدة خاصة بذوي الشهداء من الدرجتين الأولى والثانية، وهو ما أثار احتجاجات في المجموعات الإلكترونية للمفصولين. كتب أحد الأعضاء، ويدعى فالح جاسم من محافظة واسط: “النظام السابق كان يطارد العائلة حتى الدرجة الرابعة، واليوم يُحصر الاستحقاق بالدرجتين الأولى والثانية فقط. أين العدالة؟

وفي تلك المجموعات، يتجلّى اتساع الظاهرة، فبين الأعضاء شبّان في الثلاثينيات من أعمارهم يتابعون معاملاتهم بوصفهم “مفصولين سياسيين”، رغم أن بعضهم لم يكن مولوداً حين وقعت أحداث الفصل التي وُضع القانون لمعالجتها.

ما يزيد الجدل هو الامتيازات التي يحصل عليها المشمولون بالقانون، خصوصاً في مجال التعليم، حيث يُمنحون استثناءات في القبول بالدراسات العليا وإعفاء من امتحانات الكفاءة، الأمر الذي يؤثر على جودة التعليم، وفق ما يقول المحلل السياسي غالب الدعمي.

ويضيف الدعمي في حديثه لـشفق نيوز أن “ملفات كثيرة دخلها أشخاص غير مستحقين، بعضهم كان يسيء إلى المفصولين أنفسهم في عهد النظام السابق”. ويضرب مثالاً بانكشاف حالات إشراك إرهابيين أو متورطين بجرائم سابقة ضمن المشمولين بالقانون في بعض المحافظات، مؤكداً أن “القانون، رغم شرعيته، أصبح باباً لهدر المال العام، مثل العديد من القوانين العراقية التي فُصلت على مقاس المصالح السياسية“.

ويشير إلى أن “عدد المفصولين الحقيقيين ربما لا يتجاوز ربع العدد الحالي”، مشيراً إلى أن ما تبقى هو تضخم إداري ومالي ساهم في ترهل مؤسسات الدولة.

بالمقابل، يكشف مصدر مطّلع لوكالة شفق نيوز أن “هناك مفصولين سابقاً من الوظيفة بسبب تهم غير سياسية، مثل جرائم سرقة أو اغتصاب أو تلاعب بالمال العام، تمكنوا من تزوير وثائقهم والشمول بقانون المؤسسة والعودة إلى الوظيفة”.ويضيف أن “ليس كل مفصول سابقاً يُعدّ سياسياً، فعدد حالات الفصل لأسباب سياسية كان محدوداً جداً مقارنة بالأرقام المعلنة حالياً”، لافتاً إلى أن “الخلط بين المفصولين الحقيقيين والمدّعين فتح الباب أمام موجات واسعة من التلاعب والاحتيال“.

الرواية الرسمية

مسؤول في دائرة شؤون المفصولين السياسيين يقول لـشفق نيوز: “نُعيد سنوياً إلى الوظيفة نحو 4 آلاف شخص، ونُعيّن 6 آلاف جديداً، ونُحيل إلى التقاعد 3 آلاف. القانون واضح ويشمل كل من حُكم عليه أو تضرّر هو أو أقاربه حتى الدرجة الرابعة لأسباب سياسية أو عرقية أو مذهبية.”

ويؤكد أن عدد المعاملات غير المحسومة يبلغ 125 ألفاً، وأن الباب ما زال مفتوحاً “لاستقبال معاملات ذوي الشهداء من الدرجتين الأولى والثانية”، مشيراً إلى أن الدائرة تصدر أيضاً قرارات بحق من “يدّعي الفصل السياسي” دون وجه حق.

لكن هذه الأرقام الرسمية لا ترافقها أي تقارير مالية مفصّلة توضح كلفة الرواتب أو حجم المبالغ المخصصة للدرجات الجديدة، ما يجعل الملف مفتوحاً على تساؤلات كثيرة.

وحتى الآن، لم تُسجّل جلسة برلمانية علنية خُصصت لمناقشة هذا الملف رغم تداعياته المالية. تشير تحركات متفرقة إلى دعمٍ ضمني لاستمرار العمل بالقانون، إذ تواصل لجنة الشهداء والضحايا والسجناء السياسيين مطالبة الحكومة بتوسيع الشمول واستحداث درجات جديدة، بدلاً من مراجعته أو تحديد سقف زمني لإغلاقه.

وفي الوقت نفسه، تُظهر تقارير رقابية دولية مثل تلك الصادرة عن Chatham House أن التوسع غير المنضبط في التعيينات لأسباب سياسية يمثل أحد أبرز مظاهر “الفساد المُمأسس” في العراق، ويحول دون أي إصلاح إداري أو اقتصادي فعلي.

ولا توجد حتى اليوم بيانات حكومية تُظهر الكلفة التراكمية لملف المفصولين السياسيين.

جردة أرقام

وأجرت وكالة شفق نيوز، جردة لمن جرى تعيينهم أو أحيلوا للتقاعد، منذ بداية العام الحالي، وكانت النتائج وفقا لبيانات الدائرة:

وفق جداول دائرة المفصولين السياسيين: تشرين الأول/أكتوبر: 1000 تعيين جديد

أيلول/سبتمبر: 1100 تعيين تموز/يوليو: 1900 تعيين ، آب/أغسطس: 523 إحالة للتقاعد ، حزيران/يونيو: 569 إحالة للتقاعد

آذار/مارس: 1004 تعيين

بمعدل يقارب 1300 تعيين شهرياً مقابل 500 إحالة للتقاعد، أي أن عدد الداخلين إلى الوظيفة يفوق الخارجين منها بأكثر من الضعف.

ورغم محاولات شفق نيوز الحصول على تعليق رسمي من الجهات الحكومية والبرلمانية المعنية، امتنعت جميعها عن الرد أو تقديم توضيحات إضافية بشأن مصير هذا الملف. بعض المسؤولين أشاروا في اتصالات غير رسمية إلى أن “الفصل التشريعي البرلماني شارف على نهايته، وقد يحال هذا الملف للدورة البرلمانية الجديدة”، فيما برّر آخرون الصمت بانشغالهم بالتحضير للانتخابات المقبلة.

اترك تعليقًا

عرض
Drag