Skip links

هل ينجح العراقيون في كسر الحلقة الطائفية وبناء دولة المواطنة؟

الدكتور رافع سحاب الكبيسي

العراق ليس دولة عابرة في التاريخ، بل هو مهد الحضارات وأصل القوانين ومركز العلم والمعرفة منذ آلاف السنين. من سومر وبابل إلى بغداد العباسية، شكّل العراق قلب العالم الثقافي والسياسي والاقتصادي. لكن المفارقة المؤلمة أن هذا البلد العريق وصل اليوم إلى واقعٍ مأزوم تحكمه طبقة سياسية فاسدة، تستند في بقائها إلى إثارة الطائفية وتقسيم المجتمع.

منذ عقود، يتعاقب على حكم العراق أشخاص جعلوا من السلطة وسيلة للثراء والنفوذ، لا لخدمة الشعب أو بناء الدولة. تَغوَّل الفساد في مؤسسات الدولة، وتحوّلت الطائفية إلى أداة لإسكات المعارضين وتفريق المجتمع، بدل أن تكون الهوية الوطنية هي الرابط الأساس بين المواطنين. هذا الواقع لم يكن نتيجة الصدفة، بل نتيجة سياسات ممنهجة رسخت الانقسام وأضعفت مؤسسات الدولة لصالح الولاءات الضيقة.

العراق لن ينهض ما دام النظام السياسي مبنيًا على المحاصصة والطائفية، وما دام المواطن يُختزل في طائفته أو عشيرته، لا في كفاءته وانتمائه الوطني. لا يمكن لأي إصلاح حقيقي أن يرى النور إذا بقيت مراكز القرار رهينة للخطاب الطائفي الذي يُستخدم لإعادة إنتاج نفس الوجوه ونفس الفشل.

ومع اقتراب الانتخابات القادمة، يقف العراق أمام مفترق طرق حاسم. فإما أن تكون هذه الانتخابات فرصة حقيقية للتغيير السياسي، أو تتحول مرة أخرى إلى مناسبة لإعادة تدوير نفس الطبقة التي فشلت في إدارة الدولة طوال السنوات الماضية. إذا تمسّك المواطنون بالتصويت على أساس الانتماء الطائفي — شيعيًا كان أم سنيًا — فإن النتيجة ستكون واضحة: إعادة انتخاب نفس الوجوه، ونفس الأحزاب، ونفس النهج الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم.

التصويت الطائفي لا يُنتج دولة، بل يُكرّس الانقسام، ويمنح الشرعية لنظام فشل في تقديم أبسط مقومات العيش الكريم. أما التصويت الواعي، القائم على البرامج والكفاءات والنزاهة، فهو الطريق الوحيد نحو التغيير الحقيقي وبناء دولة مؤسسات قوية وعادلة.

المسؤولية لا تقع على الطبقة السياسية وحدها، بل على المجتمع أيضًا. فنهضة العراق تبدأ عندما يقرر المواطنون رفض العنف والطائفية، والتمسك بالهوية الوطنية الجامعة. يبدأ الإصلاح عندما يرفض الناس الانجرار خلف شعارات طائفية لم تجلب سوى الخراب.

والجيل الجديد يتحمّل اليوم مسؤولية تاريخية في كسر هذه الحلقة المفرغة. عليه أن يرفض التقسيمات الموروثة من الماضي، وأن يتجاوز ثنائيات “شيعي وسني” التي استُهلكت سياسيًا، ولم تنتج سوى مزيد من الأزمات. العراق بحاجة إلى جيل يؤمن بالدولة المدنية، ويعمل من أجل نظام سياسي عادل، يضع المواطنة أساسًا للحكم لا الطائفة.

إن العراق، رغم أزماته العميقة، يمتلك كل مقومات النهوض من جديد، شرط أن يتحرر من قبضة الطائفية والفساد، وأن يتحمّل مواطنوه مسؤولياتهم. فالتاريخ لا يرحم المتقاعسين، والوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالمواقف الشجاعة والإرادة الجماعية للتغيير.

اترك تعليقًا

عرض
Drag