Skip links

هل طوى النزوح فصول المأساة؟ أمل العودة بين أنقاض الذاكرة والواقع

مقالات

صادق الازرفي

في العراق نزح ملايين السكان من مناطقهم في سنوات ماضية شهدت عدم الاستقرار؛ وكان يفترض ان يعودوا الى منازلهم ومساكنهم الاصلية بعد تحقق كثير من الاستقرار، ولكن اعدادا كبيرة منهم لم يرجعوا الى مساكنهم، برغم ان دول كثيرا شهدت عودة السكان المهاجرين داخليا في احداث مماثلة شهدها العالم، اذ سرعان ما يبدأ المهاجرون داخليا بالعودة الى مناطقهم واعادة تشييد بيوتهم مع انتهاء الازمات مع ان مناطقهم خربت بسبب الحروب، وعدم الاستقرار.

فما هي اسباب عدم عودة النازحين داخليا في العراق..وهل ان القضية مرتبطة بمتاجرة بعض السياسيين بآلامهم واوضاعهم، مثلما يلمح الى ذلك بعض الباحثين؟

يمكن القول هنا، صحيح أن كثيرا من المناطق شهدت استقرارا نسبيا، لكن عودة مئات الآلاف من النازحين ما تزال تشكل تحديا كبيرا، وتبرز عدة أسباب متداخلة تمنع عودتهم، وهي ليست بالضرورة مرتبطة بعامل واحد.

فبرغم استعادة الاستقرار الأمني في كثير من المناطق، إلا أن البنية التحتية فيها ما زالت مدمرة؛ البيوت والمساكن لم يجري ترميمها بالكامل، والخدمات الأساسية مثل الماء، والكهرباء، والمدارس، والمستشفيات، ما تزال إما غير متوفرة أو تعمل بكفاءة منخفضة؛ هذا يجعل العودة صعبة جدا على العائلات، لاسيما تلك التي لديها أطفال.

ويعتمد النازحون على المساعدات الإنسانية التي يحصلون عليها في مخيمات النزوح أو أماكن إقامتهم المؤقتة، فضلا عن فرص العمل التي قد تكون متوفرة في المدن الكبرى التي نزحوا إليها.. العودة إلى مناطقهم الأصلية قد تعني مواجهة وضع اقتصادي صعب، مع غياب فرص العمل وتدمير الأراضي الزراعية والمصانع.

وبرغم الاستقرار النسبي، لا زال بعض النازحين يخشون من عودة الجماعات المسلحة أو تواجد خلايا نائمة، وفضلا عن ذلك هناك مشكلات مرتبطة بالثأر العشائري، وصراعات على الأراضي والممتلكات، وغياب ثقة النازحين ببعض الأطراف الأمنية والسياسية المسيطرة على مناطقهم، مما يجعلهم مترددين في العودة.

وهناك ايضا قضايا قانونية، ترتبط بفقدان الوثائق الشخصية والهويات في أثناء النزوح يمثل عقبة كبيرة، اذ يصعب على النازحين ممارسة حقوقهم المدنية والمالية من دونها، كما أن هناك نزاعات قانونية على ملكية بعض العقارات والأراضي التي جرى الاستيلاء عليها، وهذا يزيد من تعقيد عملية العودة.

ولا يمكن إنكار تواجد جانب سياسي في القضية، نعم، هناك اتهامات بأن بعض الأطراف السياسية أو الجماعات المسلحة تستغل قضية النازحين لتحقيق مكاسب سياسية أو مالية؛ فبعض المخيمات قد أصبحت تابعة لبعض الجهات التي تستفيد من استمرار تواجد النازحين، سواء عبر المساعدات الإنسانية أو عبر استخدام النازحين كورقة ضغط في المفاوضات السياسية.

ان العودة الطوعية والآمنة للنازحين تتطلب جهودا حكومية ودولية كبيرة، ليس فقط على المستوى الأمني، بل أيضا في إعادة الإعمار، وتوفير الخدمات، ومعالجة القضايا القانونية، وبناء الثقة بين النازحين ومناطقهم الأصلية.

وصحيح أن عودة النازحين في العراق تواجه تحديات فريدة، لكن هناك أمثلة تاريخية في أوروبا وفي مناطق أخرى يمكن الاستفادة منها، تلك الأمثلة تظهر أن عودة النازحين ممكنة، لكنها تتطلب جهودا شاملة ومتعددة الأوجه.

ففي حرب البوسنة والهرسك (1992-1995)، وبعد انتهاء الحرب، كان هناك أكثر من مليوني لاجئ ونازح داخلي، وبرغم الدمار الهائل والانقسامات العرقية، تمكنت أعداد كبيرة من العودة؛ هذا النجاح كان بفضل، اتفاقية دايتون للسلام، التي نصت صراحة على حق جميع النازحين واللاجئين في العودة إلى أماكن إقامتهم الأصلية.

كما توفر دعم دولي كبير، اذ قدمت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي مساعدات لإعادة بناء المنازل والبنية التحتية، وهو ما شجع الناس على العودة.

وجرى إنشاء محاكم ومؤسسات قضائية، للتعامل مع قضايا ملكية المنازل والممتلكات، مما أعطى الناس الثقة في استعادة ممتلكاتهم.

وابان حرب كوسوفو (1998-1999)، نزح مئات الآلاف من الألبان، وبعد تدخل حلف الناتو، عاد معظم النازحين إلى ديارهم على الفور؛ وكانت العودة سريعة وفعالة بفضل، تواجد قوات حفظ سلام دولية، وفرت بيئة آمنة للعودة ومنعت وقوع مزيد من العنف، وكذلك بفضل مساعدات إنسانية واسعة النطاق، قدمتها منظمات دولية لإعادة بناء المنازل وتوفير الغذاء والمستلزمات الأساسية.

وفي كرواتيا (1991-1995) بعد “حرب الاستقلال” التي اندلعت بعد تفكك يوغوسلافيا، كانت هناك أعداد كبيرة من النازحين، تمكنت كرواتيا من تحقيق عودة تدريجية للنازحين عن طريق إعادة الإعمار الحكومية، اذ قدمت الحكومة الكرواتية قروضا ومنحا لمساعدة الناس على إعادة بناء منازلهم.

كما تكثفت في وقتها الجهود الدبلوماسية، التي ساعدت على حل النزاعات القانونية المتعلقة بالأراضي والممتلكات.

وهناك العوامل المشتركة التي اسهمت في نجاح العودة، ومن ذلك ضمان الأمن بتواجد قوة أمنية موثوقة (سواء كانت محلية أو دولية) لضمان عدم تكرار العنف؛ وجرت عملية منظمة لإعادة الإعمار بتوفير الدعم المالي والمساعدات لإعادة بناء المنازل والبنية التحتية.

وفي الجانب القانوني، جرى حل قضايا الملكية وتوفير حماية قانونية لحقوق النازحين في العودة؛ كما ان التوافق السياسي، ولد إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف لدعم عودة النازحين.

في العقدين الماضيين، نزح ملايين العراقيين بسبب تنظيم داعش، اذ بلغت ذروة النزوح في 2014-2017، لكن جهود العودة أدت إلى انخفاض الأعداد بشكل ملحوظ، وبحلول عام 2020، كان ما يزال هناك 1.3 مليون نازح، في حين تشير إحصائيات عام 2024 إلى عودة 56 ألف نازح داخلي إلى مناطقهم الأصلية، مع بقاء الآخرين في المخيمات بسبب عدم عودة البنية التحتية والخدمات الأساسية، ولا زال هناك نازحون يقيمون في مخيمات أو ظروف عشوائية، يمثلون فئة ضعيفة معرضة لمخاطر متنوعة.

اترك تعليقًا

عرض
Drag