“ماء ميت” في العراق.. سكان الجنوب يواجهون العطش بالسموم
تقارير
مع كل فجر جديد في البصرة، يبدأ سباق العطش في المحافظة. رجال ونساء وحتى أطفال يحملون أوعية فارغة يتدافعون خلف صهاريج المياه، فيما يمر شط العرب من قربهم صامتاً كأنه يروي حكاية تحوّله من شريان حياة إلى بحرٍ مالح غير صالح للاستخدام.
المزارع عطشان، البيوت عطشى، وحتى النخيل الذي كان يفاخر به العراقيون في البصرة، بات ينحني تحت وطأة الملوحة، الماء موجود، لكنه مسموم بملح وملوثات، والناس تائهون بين الأمل بمشاريع التحلية والخوف من انتظارٍ قد يطول.
وتعيش محافظة البصرة جنوب العراق منذ سنوات أزمة مائية متفاقمة، إذ تتصاعد نسب الملوحة في مياهها إلى حد يجعلها غير صالحة للشرب، فيما يتكرر هذا المشهد مع كل موسم جديد، ليزيد من معاناة السكان دون حلول حكومية.
وبحسب أهالي المحافظة، فإن المشكلة لا تقتصر على الملوحة فحسب، بل تتفاقم مع تلوث الأنهر بسبب تصريف المياه الثقيلة والمخلفات الصناعية، الأمر الذي جعل المياه غير ملائمة حتى للاستعمالات المنزلية في بعض مناطق المحافظة.
وفي الوقت ذاته، دخلت ثلاث محافظات عراقية أخرى سباق العطش اذ باتت تشهد انخفاضاً حاداً في خزينها المائي خلال الأيام الأخيرة، وسط تحذيرات من تداعيات صحية خطيرة، دفعت الجهات المعنية إلى تكثيف حملات التوعية للحد من مخاطر الأمراض الانتقالية التي يُخشى تفشيها.
استمرار أزمة شح المياه وارتفاع نسب الملوحة في شط العرب وارتفاع مستوى التلوث، دفع فريق وكالة شفق نيوز، للتقصي عن هذا الملف الذي بات يهدد الحياة في جنوب العراق.
الملوحة تجتاح شط العرب
ووفقاً لمعلومات حصلت عليها شفق نيوز، فإن كميات التصاريف الواردة إلى شط العرب ما زالت في تراجع، ما أدى إلى ارتفاع التراكيز الملحية بشكل ملحوظ، وسط معاناة السكان من قلة مياه الشرب المنتجة عبر محطات التحلية (RO)، حيث أن الملوثات في المياه لم تشهد تغييرات نوعية، وإنما تتذبذب كمياتها تبعاً لحركة المد والجزر، نظراً لتحول مجرى شط العرب إلى بيئة مائية مالحة.
وما بين 25 ألفاً إلى 40 ألف TDS (وحدة قياس المواد الصلبة الذائبة في المياه) هي نسبة الملوحة التي اجتاحت نحو 120 كيلومتراً من مجرى شط العرب، فيما يمتد الجزء المتبقي البالغ نحو 80 كيلومتراً بمياه مالحة بنسب أقل، لكنها تظل غير صالحة للاستخدام الزراعي أو الإسالة.
وتقدر حاجة سكان البصرة البالغ عددهم نحو 5 ملايين نسمة بما لا يقل عن مليون متر مكعب يومياً من المياه الصالحة للشرب والإسالة، على أن لا تتجاوز نسبة ملوحتها 500 TDS.
إلى جانب ذلك، تحتاج المحافظة إلى نحو 14 متراً مكعباً في الثانية لقطاع النفط، و30 متراً مكعباً في الثانية للزراعة، إضافة إلى 10 أمتار مكعبة في الثانية لتلبية احتياجات البناء، الكهرباء والاستخدامات الأخرى.
الشركات المختصة التي أحيل لها مشاريع تحلية المياه الكبرى، قبل فترة قليلة، باشرت بأعمال “مسوحات التربة” تمهيداً للبدء بتنفيذ المشاريع على أرض الواقع قريباً، وفقاً لنفس المعلومات.
الجنوب في خطر

أما بخصوص أزمة المياه في باقي المحافظات الجنوبية، فتعود لانخفاض واردات المياه من نهر الفرات، إضافة إلى تأثيرات التغير المناخي وتكرار موجات الجفاف والتي أسهمت جميعها في تراجع مساحات المسطحات المائية داخل العراق بشكل كبير.
الأوضاع المائية التي تعيشها المحافظات الجنوبية، تتجاوز تأثيراته حياة الإنسان فقط، وإنما انعكست بشكل مباشر على المحاصيل الزراعية التي تراجعت إنتاجيتها، فضلاً عن الحيوانات والكائنات المائية مثل الجاموس والنباتات في الأهوار التي باتت مهددة بالوجود في تلك المحافظات.
وتشير المعلومات، إلى أن المياه في المحافظات الجنوبية العراقية مثل البصرة، ذي قار، ميسان والمثنى تعاني من “الأملاح وملوحة مياه البحر، المعادن الثقيلة مثل الرصاص، الكادميوم، الزئبق، والكروم، الناتجة عن مخلفات المصانع والأنشطة النفطية، بالإضافة إلى المخلفات النفطية والصناعية مثل تسرّب الزيوت ومشتقات النفط من الحقول والمصافي وخطوط النقل“.
كما تعاني مياه الجنوب من المخلفات الزراعية مثل المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية اللي تجرفها مياه الري، بالإضافة إلى تأثرها بالمخلفات المنزلية ومياه الصرف الصحي حيث أن أغلب المدن تفتقر لمحطات معالجة كافية، فينزل الصرف الصحي مباشرة للأنهار ما يؤدي إلى انتشار البكتيريا الممرضة مثل E.coli (بكتيريا الإشريكية القولونية)، والكوليرا والتلوث الجرثومي والعضوي، فضلاً عن وجود المواد الصلبة العالقة الناتجة عن رمي الأنقاض والنفايات الصلبة قرب الأنهار.
تأكيد ونفي

وتداولت وسائل إعلام محلية ومنصات التواصل الاجتماعي في العراق خلال الأيام القليلة الماضية مقاطع فيديو وصور تُظهر تلوثاً واضحاً في شبكات المياه بعدد من مناطق جنوب العراق، حيث برزت مادة “خضراء داكنة” تخرج من أنابيب المياه داخل منازل المواطنين، الأمر الذي أثار موجة استياء وخوف واسع بين الأهالي.
ووفقاً لشهادات السكان على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن المياه الملوثة لم تعد تصلح حتى للاستخدامات المنزلية اليومية، في وقت سجّلت فيه بعض المحافظات توقف عدد من محطات التصفية نتيجة ارتفاع نسب التلوث وتراجع مناسيب المياه، ما عمّق من أزمة تجهيز المياه الصالحة للشرب.
إلا أن وزارة الموارد المائية العراقية نفت ما تردد في بعض وسائل الإعلام حول تلوث مياه الشرب في عدد من محافظات البلاد رغم وجود مقاطع فيديو وصور تثبت ادعائهم، مؤكدة في الوقت نفسه أن الفحوصات المختبرية أثبتت صلاحيتها للاستخدام البشري.
وخلال شهر تموز/يوليو الماضي، قالت وزارة الموارد المائية العراقية إن تراجع الخزين المائي يعود بالدرجة الأساس إلى ضعف الإطلاقات الواردة من دول المنبع، إلى جانب التداعيات المتسارعة للتغير المناخي، مشيرة إلى أن عام 2025 يُسجَّل كأحد أكثر الأعوام جفافاً منذ عام 1933، ما ينذر بتحديات غير مسبوقة في إدارة الموارد المائية.
الأزمة الأسوأ بتاريخ العراق
من جانبه يقول الأكاديمي والخبير البيئي شكري الحسن، خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، إن “العراق يمر بأسوأ أزمة مائية في تاريخه الحديث”، عازياً ذلك إلى “مجموعة من الأسباب الداخلية والخارجية“.
ويشير الخبير البيئي، أن البصرة تواجه تحدياً مضاعفاً بسبب ملوحة مياه البحر التي زحفت نحو شط العرب إلى جانب الملوثات الصناعية والزراعية، ما أدى إلى تردي نوعية المياه بشكل خطير.
ويختم الحسن، بالقول إن “ما يعيشه العراق اليوم هو الأسوأ منذ نشأته وحتى الآن”، محذراً من أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه سيجعل الصورة “قاتمة جداً” في المستقبل القريب.
