Skip links

غزة… درس العالم في الصمود

مقالات

الدكتور رافع سحاب الكبيسي

انتهت الحرب، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى. توقفت أصوات الطائرات والمدافع، وعمّ الصمت شوارع غزة التي اعتادت على الضجيج المميت ليلًا ونهارًا. لكن هذا الصمت ليس راحة، بل بداية مرحلة جديدة، مرحلة أكثر صعوبة وتعقيدًا. فالحرب لا تنتهي عندما تتوقف القذائف، بل عندما تنجح الأرواح المرهقة في النهوض من تحت الركام، وتستعيد الحياة إيقاعها الطبيعي.

على مدى عامين كاملين، عاش أكثر من مليوني إنسان تحت الحصار والقصف والجوع. كانت الحياة اليومية في غزة أشبه بالبقاء على حافة الموت في كل لحظة. البيوت لم تعد ملاذًا آمنًا، والمستشفيات غدت ساحات معركة، والمدارس تحولت إلى ملاجئ مؤقتة. وفي كل زاوية، هناك قصة فقد، وهناك جرح مفتوح لا يندمل.

في الشوارع المهدّمة، يمكن رؤية الأطفال وهم يحاولون التأقلم مع واقع جديد لم يعرفوا سواه منذ ولادتهم تقريبًا. يبحثون عن زوايا آمنة، عن أماكن تمنحهم شعورًا بالاستقرار بعد أن عاشوا تحت القصف والخوف لفترة طويلة.

الدمار طال كل شيء، لكن آثار الحرب الأعمق كانت على النفوس. عائلات كاملة فقدت أحبّتها، أحياء تغيرت ملامحها، ومدارس تحولت إلى ملاجئ. في المقابل، تظهر مشاهد أخرى تعبّر عن روح غزة العنيدة؛ جيران يساعدون بعضهم في إزالة الركام، مبادرات شبابية لإعادة تنظيم الحياة اليومية، وإصرار واضح من السكان على عدم مغادرة مدينتهم.

ورغم ذلك، لم تنكسر غزة. لم ترفع الراية البيضاء، ولم تغادر أرضها كما أراد لها المحتل. بل على العكس، تشبثت بالحياة كما لم تفعل من قبل، وأثبتت أن الصمود ليس شعارًا يُرفع في المظاهرات، بل فعل يومي، متجذر في الوعي الجمعي لأهلها.

لقد أراد الاحتلال أن يجعل من الحرب وسيلة لتركيع هذه المدينة. استخدم القوة بأبشع صورها، واستهدف كل ما يشكّل ملامح الحياة فيها. لكنه لم يدرك أن ما يحمي غزة ليس الجدران ولا السلاح، بل الإرادة. إرادة شعبٍ يعرف أن الأرض ليست مجرد مكان، بل هوية وذاكرة وكرامة.

وفي خضم هذا المشهد القاسي، تبرز مواقف الدول والشعوب التي اختارت أن تنحاز إلى الإنسان قبل السياسة، وإلى الضمير قبل المصالح. شعوب خرجت إلى الشوارع لتصرخ من أجل غزة، ودول رفعت صوتها عاليًا في وجه آلة القتل، وهيئات إنسانية فتحت قلوبها وأبوابها لتقديم العون بكل أشكاله. تلك المواقف، التي تجلت في لحظات كان فيها الصمت جريمة، شكّلت جسرًا من التضامن الإنساني عبر القارات، وأرسلت إلى غزة رسالة واضحة: لستم وحدكم.
لقد كان هذا الانحياز الإنساني سندًا معنويًا وروحيًا لأهل غزة، عزّز صمودهم، وأثبت أن في هذا العالم قلوبًا لا تزال تنبض بالعدالة، وأصواتًا لا تخشى أن تقول “لا” في وجه القهر.

اليوم، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، يكتشف العالم من جديد أن غزة ليست مجرد عنوان لأزمة إنسانية، بل نموذج حي للصمود الإنساني في وجه كل أشكال القهر. أطفالها الذين قضوا عامين في الظلام، يبحثون الآن عن الضوء من جديد. شبابها الذين عاشوا تحت القصف، يخططون لبناء ما تهدّم. ونساؤها اللاتي فقدن أحبتهم، يقفن بشجاعة ليحملن ما تبقى من الحياة ويواصلن المسير.

غزة تعلّم العالم درسًا لم تكتبه الكتب بعد: أن القوة الحقيقية لا تُقاس بحجم الدمار الذي تستطيع أن تُلحقه، بل بقدرة الناس على النهوض بعده.

إن الواجب الإنساني اليوم لا يقف عند حدود الإعجاب بهذا الصمود، بل يتطلب دعمًا حقيقيًا وعادلاً. فإعادة إعمار غزة ليست فقط ترميمًا للأبنية، بل ترميم للروح، للذاكرة، وللحياة نفسها.

ستنهض غزة من جديد، كما فعلت مرارًا. وستبقى رمزًا حيًا للصمود والكرامة، درسًا للعالم أجمع بأن الشعوب التي تؤمن بحقها لا تُهزم، مهما طال الليل، ومهما اشتدّ الألم.

اترك تعليقًا

عرض
Drag