Skip links

صوت بلا قيود

مقالات

مشتاق الربيعي

ليست حرية التعبير مجرد نص في دستور أو مادة قانونية تُذكر في الخطب الرسمية، بل هي جوهر الديمقراطية وميزان كرامة المواطن. ولعل ما يثير القلق اليوم أن بعض أعضاء المجلس النيابي الموقر يسعون لتعديل قانون حرية التعبير، وهو أمر إن حصل سيشكل خرقاً واضحاً للدستور، وتراجعاً عن أهم مكسب تحقق بعد عقود من القمع والاستبداد. 

من الزاوية القانونية، يكفي أن نعود إلى المادة (36) من الدستور العراقي التي نصت بوضوح على ضمان حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية الصحافة والطباعة والإعلام والنشر، إضافة إلى حرية الاجتماع والتظاهر السلمي. هذه ليست حقوقاً ثانوية يمكن العبث بها، بل هي حقوق أساسية صاغها المشرع استجابة لتضحيات أجيال كاملة. والمساس بها لا يعني مجرد تعديل قانوني، بل انتهاكاً للعقد الاجتماعي الذي ارتضاه العراقيون لأنفسهم بعد سقوط الاستبداد. 

أما من الزاوية التاريخية، فلابد أن نتذكر أن العراقيين عاشوا سنوات طويلة في ظل أنظمة جعلت الكلمة جريمة. كانت الصحف تُراقب، والكتب تُصادر، والمثقفون والطلاب يُعتقلون لمجرد التعبير عن آرائهم. كان الصمت هو اللغة الرسمية، والخوف هو القانون غير المكتوب. ولما جاءت مرحلة التغيير، كان الأمل الأكبر أن يكون العراق وطناً يُسمع فيه صوت المواطن، وتُحترم فيه حرية الرأي. لذلك، فإن أي تقييد لهذه الحرية اليوم لا يُعتبر مجرد خطوة سياسية، بل يُنظر إليه كعودة إلى الماضي الذي ثار عليه العراقيون بدمائهم.

ومن الزاوية السياسية الراهنة، يمكن القول إن الديمقراطية العراقية لاتزال فتية، هشة في بنيتها، بحاجة إلى مزيد من الحماية والرعاية. غير أن محاولات التضييق على حرية التعبير تعكس نزعة مقلقة نحو إعادة إنتاج الاستبداد بأدوات جديدة. اعتقال كاتب أو ملاحقة ناشط أو إغلاق وسيلة إعلامية بحجة النظام العام، كلها مؤشرات تجعل المواطن يفقد ثقته بالديمقراطية، وتفتح الباب أمام أزمات سياسية واجتماعية لا تنتهي. فالديمقراطية التي لا تُصغي إلى صوت مواطنيها تتحول بسرعة إلى مجرد واجهة شكلية، بلا مضمون حقيقي. 

أما من الزاوية الاجتماعية والإنسانية، فإن حرية التعبير ليست ترفاً فكرياً، بل هي حاجة يومية للناس. المواطن يريد أن يُسمع صوته حين يشكو من الفساد، أو من سوء الخدمات، أو من السياسات الاقتصادية التي تثقل كاهله. الشباب يريدون مساحة للتعبير عن طموحاتهم، والنساء يبحثن عن منصة لطرح قضاياهن، والمثقفون يريدون فضاءً لطرح أفكارهم. إن حرمان الناس من هذه الحرية يعني حرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، ويحول المجتمع إلى كتلة من الصمت المكبوت الذي قد ينفجر في أي لحظة. 

ومع ذلك، تبقى هناك زاوية أخلاقية ومسؤولية مجتمعية. فالحرية ليست فوضى، والكلمة مسؤولية كبرى. النقد يجب أن يكون موضوعياً وبنّاءً، بعيداً عن التسقيط والتشهير والكراهية. فالكلمة الهادفة تبني وتعالج وتفتح آفاقًا جديدة، بينما الكلمة المسمومة تهدم وتزرع الفتنة. لذلك، فإننا ندافع عن حرية التعبير بوصفها حقاً مقدساً، لكننا في الوقت نفسه ندعو إلى ممارستها بوعي ومسؤولية، حتى تبقى سلاحاً للإصلاح لا وسيلة للهدم.

من هنا، فإن على القضاء العراقي أن يثبت من جديد أنه الحارس الأمين للحرية، وأن يُطلق سراح جميع الكُتّاب والناشطين المعتقلين لمجرد أنهم حملوا أقلامهم وقالوا كلمة الحق. إن الكلمة ليست جريمة، بل هي أداة لبناء الأوطان. معاقبة أصحابها لا تُضعف إلا صورة الدولة نفسها، وتُعمّق الفجوة بينها وبين مواطنيها. فالدولة القوية لا تخشى الكلمة، بل تستمد قوتها من احترامها لها. 

ولعل من المناسب أن ننظر أيضاً إلى التجارب الدولية المقارنة. فالدول التي حققت نهضتها السياسية والاقتصادية لم تبلغ ذلك إلا حين فتحت المجال لحرية الرأي، واعتبرت الصحافة رقيباً لا عدواً، والمجتمع المدني شريكاً لا خصماً. أما الدول التي قيدت حرية الكلمة، فقد عاشت في عزلة، وتآكلت مؤسساتها من الداخل حتى انهارت. والعراق لا يمكن أن يكون استثناءً من هذه القاعدة، فهو إما أن يسير في طريق الحريات، أو يظل أسيراً لدائرة التراجع والتناقضات.

اليوم، يقف العراق أمام مفترق طرق مصيري: إما أن يعزز حرية التعبير ويجعلها صمام أمان للديمقراطية، أو يفرّط بها فيعود إلى دوامة القمع التي لا رابح فيها. الخيار واضح، والواجب أوضح. فحرية التعبير ليست شأناً يخص الدولة وحدها، بل هي واجب على كل مواطن ومثقف وإعلامي ومؤسسة مدنية. السكوت عن محاولات تقييدها مشاركة ضمنية في قتل الديمقراطية، أما الدفاع عنها فهو دفاع عن كرامة المواطن وعن مستقبل العراق.

إن صوت المواطن الحر هو أقوى ضمانة للاستقرار، وأي محاولة لإسكاته لن تؤدي إلا إلى زيادة الفجوة بين الشعب والدولة. العراق الذي نحلم به ليس بلداً للخوف والرقابة، بل وطناً يسمع الجميع فيه أصوات بعضهم بعضاً، مهما اختلفت الآراء وتباينت المواقف. بهذا وحده يمكن أن نبني دولة تحترم أبناءها، وتستعيد مكانتها التاريخية بين الأمم.

إن حرية التعبير هي الخط الفاصل بين الحرية والاستبداد، بين دولة تفتخر بمواطنيها ودولة تخاف من أصواتهم، بين عراقٍ يريد أن يعيش حراً، وعراقٍ يعيد إنتاج الخوف من جديد. لذلك، فلنقف جميعاً صفاً واحداً من أجل حماية هذا الحق المقدس، ولنجعل العراق وطناً للكلمة الحرة، وطناً لا مكان فيه للصمت المفروض، ولا للرقابة التي تكمم الأفواه. فالوطن الذي لا يسمع صوت أبنائه، لا يسمع العالم صوته، ولن يكون له مستقبل بين الأمم الحرة.

سياسة تكميم الأفواه.. دروس من الماضي

إن سياسة تكميم الأفواه لم تكن يوماً وسيلة ناجحة للحفاظ على استقرار الأنظمة أو بناء الأوطان، بل كانت دائماً الطريق الأسرع نحو الانهيار. الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت العراق لعقود طويلة مارست أقسى أشكال القمع، من منع حرية التعبير، وإغلاق الصحف، وملاحقة المثقفين، إلى الزج بالمعارضين في السجون والمعتقلات. وقد ظنّت تلك الأنظمة أن الصمت المفروض بالقوة سيضمن لها البقاء، لكن ما كانت النتيجة؟.

كانت النتيجة أن تراكم الغضب الشعبي تحت الرماد، وتحوّل المجتمع إلى بركان صامت ينتظر لحظة الانفجار. وعندما حانت الفرصة، انهارت تلك الأنظمة سقوطاً مدوياً، لأنها لم تستند إلى قاعدة رضا شعبي، بل إلى الخوف وحده.

التاريخ يثبت أن الأفكار لا تُقتل، وأن الكلمة الحرة أقوى من كل أدوات القمع، فهي تعبر الأجيال وتبقى حية حتى بعد رحيل أصحابها. بينما الذين راهنوا على تكميم الأفواه، خسروا كل شيء: السلطة، والشرعية، وحتى ذكرى طيبة في ذاكرة شعوبهم.

إن العودة إلى نفس السياسات القديمة، ومحاولة إحياء ممارسات القمع، لن تجلب للعراق إلا المزيد من الأزمات. فالشعوب التي تذوقت طعم الحرية بعد عقود من الظلم، لن تقبل بالتراجع إلى الوراء. ومن يتوهم أن فرض الصمت يمكن أن يضمن الاستقرار، عليه أن يراجع دروس الماضي القريب، ليدرك أن الديمقراطية وحدها، وحرية التعبير خصوصاً، هي الطريق الصحيح لبناء عراق قوي ومستقر.

اترك تعليقًا

عرض
Drag