“روزاليوسف”… 100 عام من المجازفة والضوء
تقارير
يتيح الاحتفال بمئوية مجلة “روزاليوسف” فرصة للتجول في ممرات الذاكرة، التي ارتبطت باسم فاطمة اليوسف أو روزاليوسف (1897-1958) وقد تحوّل اسمها إلى مؤسسة، وصوتها إلى مدرسة صحافية كاملة.
داخل المبنى التاريخي الذي يحمل اسمها في قلب العاصمة المصرية، تتجاور ملامح الزمن بين طابع معماري يعود لأربعينات وخمسينات القرن الماضي، وصور فوتوغرافية تجمعها بكبار رموز الفكر والفن والسياسة، لتبدو الجدران كأنها مرآة للذاكرة الثقافية.
وداخل مبنى المؤسسة الحالي، ببنائه المعاصر، تكمن مفارقة رمزية لافتة، فالمبنى الذي يحمل اسم روزاليوسف لم تطأه قدما صاحبته يوماً. إذ رحلت فاطمة اليوسف قبل أن ترى هذا الصرح الجديد الذي انتقلت إليه المؤسسة عام 1960 بعد تأميمها، لكنها كانت قد أرست قواعده المعنوية من قبل، حين أدارت مجلتها الأولى من شقة صغيرة مكوّنة من 5 غرف تبعد أمتاراً قليلة عن المقر الحالي.

أول أعداد مجلة «روزاليوسف» (العدد التذكاري لمجلة «روزاليوسف»)
معارك ومصادرات
“لم تكن روزاليوسف تدير مشروعاً صحافياً فحسب، بل كانت تبني مؤسسة كاملة، تُفاوض وتناور وتُدير الأزمات بعقلٍ يسبق زمنه، امتلكت شجاعة الاشتباك مع السلطة دون أن تفقد قدرتها على المناورة، فكانت تفاوض الوزراء كما تناقش المحررين، وتدير معاركها بعقلية مؤسسية قلّ أن نجدها في بدايات القرن العشرين”، وفق وصف المؤرخ الصحافي المصري رشاد كامل، الذي يقول لـ”الشرق الأوسط” إن “(روزاليوسف) كانت تعرف أن استمرار الكلمة يحتاج إلى قدر من الحكمة لا يقل عن الجرأة، فعندما صودرت مجلتها، أطلقت أخرى، وعندما أُغلقت (روزاليوسف) وُلدت (الصرخة) و(الرقيب) و(صدى الحق)”.
مضيفاً أنها “لم تكن تملك رأس مال ضخماً ولا حزباً خلفها، بل كانت تستمد قوتها من إيمانها بالحرية ومن قدرتها الفطرية على تحويل المنع إلى مساحة جديدة للقول”.
أما أهم لحظة في مسيرة مجلة “روزاليوسف”، كما يصفها كامل، فكانت “خلافها مع الكاتب الصحافي البارز محمد التابعي عام 1934، حين قرر الأخير الانفصال عنها وتأسيس مجلة (آخر ساعة)، مصطحباً نخبة من ألمع الصحافيين الشباب مثل مصطفى وعلي أمين وصاروخان”، ويوضح كامل: “بعد أن ظن الجميع أن مجلة (روزاليوسف) انتهت، لكنها ردّت بخطوة جريئة وتوجهت في اليوم التالي إلى وزارة الداخلية وقدّمت طلباً لإصدار جريدة يومية، وفي فبراير (شباط) 1935 صدر العدد الأول من جريدة روزاليوسف اليومية برئاسة الدكتور محمود عزمي، الذي أصبح لاحقاً ممثل مصر في الأمم المتحدة”.

المجلة ضمت عدداً من أهم الكتاب في مصر (روزاليوسف)
ومن الطريف أن الأديب عباس محمود العقاد رفض في البداية الكتابة في جريدة “تملكها امرأة”، لكن السيدة “روزاليوسف” أقنعته بأنها “ليست جريدة سيدة بل منبر حر، فوافق، وتحول رفضه إلى إعجاب، وسرعان ما بدأت الصحيفة تهاجم الحكومة دفاعاً عن الدستور حتى اضطر رئيس الوزراء توفيق نسيم باشا إلى الاستقالة، قائلاً لمصطفى النحاس، لن أستطيع الاستمرار في الحكم ما دامت (روزاليوسف) تهاجمني”، وفق كامل.
صمود مهني
ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى كلمة الراحل إحسان عبد القدوس، في أغسطس (آب) سنة 1947، بعد مرور عامين على رئاسته للتحرير، بمناسبة صدور العدد ألف (1000) من مجلة “روزاليوسف”، فكتب مقالاً بعنوان “ألف عدد”، جاء فيه: “هذا هو العدد الألف من مجلة (روزاليوسف) وكان يجب أن يكون العدد رقم (1122) والذنب ذنب صدقي باشا ومحمد محمود باشا، والنحاس باشا والنقراشي باشا، رؤساء الحكومة، لأنهم عطلوا مجلة روزاليوسف مدداً تتراوح بين 6 أشهر و3 وشهرين وشهر وأسبوع، وقد بلغ مجموع الفترات التي عطلت فيها مجلة (روزاليوسف) سنتين كانتا كافيتين لتحطيم رأس أي عنيد وإزهاق روح أي جريدة أو مجلة، خصوصاً إذا أضفت إليهما أوامر المصادرة والغرامات القضائية وأحكام الحبس التي صدرت ضد كل من تولى رئاسة التحرير”.

الاحتفال بمئوية مجلة «روزاليوسف» (الشرق الأوسط)
“تاريخ (روزاليوسف) هو في جوهره تاريخ الحرية”، كما يقول الكاتب والناقد المصري طارق الشناوي، ويتابع: “فقد خاضت المجلة معاركها مع الملك، ومع حزب الوفد، ومع عهد عبد الناصر، ودفعت الثمن حين دخل رئيس تحريرها إحسان عبد القدوس السجن دفاعاً عنها”.
ويضيف الشناوي لـ”الشرق الأوسط”: “في زمن أنور السادات، وقفت المجلة ضد الانفتاح العشوائي، وأيّدت المظاهرات، فتم إبعاد رؤساء تحريرها فتحي غانم وصلاح حافظ بسبب انحياز السياسة التحريرية للغضب الشعبي، كانت (روزاليوسف) دائماً جريدة الحرية، لا تتردد في دفع ثمن موقفها. ورغم تقييد الإعلانات على الجريدة والمجلة، لم تتراجع، بل استمرت في الدفاع عن الكلمة الحرة”. وفق تعبيره.
وفي المجال الفني، تبنّت المجلة الموقف ذاته، كما يتابع الناقد طارق الشناوي أحد كُتاب “روزاليوسف”: “وقفت إلى جانب الأفلام التي منعتها الدولة مثل (ناجي العلي) و(القاهرة منوّرة بأهلها)، وكتبت عنها ودافعت عن حرية الإبداع، في وقت كانت فيه أصوات رسمية تطالب بالمصادرة. هكذا ظلّ توجه (روزاليوسف) ثابتاً عبر العقود، الانحياز الدائم للحرية في كل أشكالها”. حسب وصفه.
ولعل “طاقة الصمود المهنية الهائلة لدى (روزاليوسف)” هي ما تعتبره الدكتورة ليلى عبد المجيد، أستاذة الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، يستحق الاحتفاء بها بوصفها “أعرق التجارب في الصحافة العربية، لمجلة سياسية وُلدت عام 1925 واستطاعت أن تحافظ على تواصل حي مع قرائها على اختلاف أجيالهم”، وفق قولها، مضيفة لـ”الشرق الأوسط”: “منذ تأسيسها، وضعت (روزاليوسف) نصب عينيها مبدأ أساسياً، وهو أن تكون دائماً على يسار أي نظام، في موقع النقد والمساءلة، ومؤدية دورها في تنوير الرأي العام”.

احتفالية كبرى بمئوية «روزاليوسف» (المجلة)
عمالقة الكاريكاتير
وعلى مدار 100 عام، تناوب عمالقة رسامي الكاريكاتير في مصر التوقيع على رسومهم التي أفردت لها “روزاليوسف” مساحات لافتة في أعدادها، ليكون الكاريكاتير أحد أبرز الفنون التي لازمت المجلة، فيعتبر فنان الكاريكاتير المصري سمير عبد الغني أن “(روزاليوسف) هي المدرسة الأم في الكاريكاتير التي خرج من عباءتها كل الكبار، منهم صاروخان الأرميني، والفنان عبد السميع، وجميع مبدعي مجلة (صباح الخير) من صلاح جاهين، وجورج بهجوري، وحجازي، ورجائي ونيس، وبهجت عثمان، وناجي كامل، وإيهاب شاكر، واللباد، ومحسن جابر، ومحمد حاكم، وغيرهم كثير من العباقرة الذين صنعوا مجد الكاريكاتير وكانوا لسان حال الشعب وأحد أهم أسباب البهجة للقراء”.
ويضيف عبد الغني لـ”الشرق الأوسط”: “عندما ذهب جاهين إلى جريدة (الأهرام) في مرحلة لاحقة كانت أيادي (روزاليوسف) البيضاء تحط على (الأهرام)، ثم جاءت جريدة (الأهالي) فذهبت إليها كتيبة (روزاليوسف) من الرسامين بقيادة الفنان حجازي”.

عدد تذكاري من «روزاليوسف» (المجلة)
طاقة استثنائية
ونظّمت مؤسسة “روزاليوسف” احتفالية بمناسبة مئوية المجلة التي صدر العدد الأول لها 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1925، مساء الأربعاء، في أحد فنادق القاهرة، بحضور عدد من الصحافيين والإعلاميين والشخصيات العامة، وفي الحفل تحدث حفيدها الكاتب الصحافي محمد عبد القدوس عن جدته قائلاً إنها كانت “سيدة استثنائية بكل المقاييس، جمعت بين الموهبة والإصرار وحققت نجاحاً فريداً في الفن والصحافة، إذ كانت الوحيدة في مصر التي تألقت في المجالين معاً”.
وتابع: “بدأت حياتها ممثلة بارعة في فرق عزيز عيد وأمين الريحاني وجورج أبيض ويوسف وهبي وطلعت حرب، وشاركت في بطولة أوبريت من ألحان سيد درويش. وحين كانت في الرابعة عشرة جسدت على المسرح دور سيدة في السبعين، لتكشف مبكراً عن طاقتها التمثيلية الفريدة”.

صحافيو «روزاليوسف» في لقطة تذكارية أمام المؤسسة (إدارة المؤسسة)
وتتأمل الكاتبة الصحافية زينب عفيفي خلال حضورها حفل المئوية، حالة التفرد التي تحيط باسم الكاتبة روزاليوسف إلى اليوم، قائلة: “بعد قرنٍ من رحيلها تظل (روزاليوسف) شخصية محورية في تاريخ الصحافة العربية، تميزت بروح المبادرة والجرأة وإصرارها على الحضور والمشاركة الفاعلة في عالم السياسة والثقافة والفن، في زمنٍ لم يكن يمنح النساء تلك المساحة”، مضيفة لـ”الشرق الأوسط”: “فهي صاحبة دور ريادي في الصحافة والكتابة، إذ كانت أول امرأة عربية تتولى رئاسة تحرير مجلة سياسية وثقافية عام 1925، في وقت كانت فيه المرأة المصرية مكبّلة بالقيود وأقصى طموحها أن تُكمل تعليمها”. و”لعله الإلهام الذي استطاع تحريك الراكِد”، بحسب كلمة الدكتورة ليلى عبد المجيد: “ظلت (روزاليوسف) على مدى قرن من الزمان قادرة على أن تحتفظ بقدرتها على التجدد ومخاطبة القارئ بلغة معاصرة تراعي تغير الزمن، رغم التحولات السياسية والاقتصادية التي مرّت بها، فأن تبقى الصحافة فعل وعيٍ وفضاء حرّاً للفكر، هو جوهر مدرسة (روزاليوسف) التي ما زالت تُلهمنا حتى اليوم”.
