Skip links

رؤية جديدة بعد الانتخابات العراقية: هل ينهض الوطن من عنق الأزمات؟

الدكتور رافع سحاب الكبيسي

بين آمالٍ معلّقة وواقعٍ مثقلٍ بالتحديات، يقف العراق اليوم على عتبة مرحلة سياسية جديدة بعد انتهاء الانتخابات الأخيرة. فالمواطن العراقي، الذي أنهكته سنوات طويلة من الأزمات الأمنية والاقتصادية والسياسية، توجه إلى صناديق الاقتراع وهو يبحث عن بصيص أمل يعيد إليه ثقته بوطنه ومؤسساته. ومع ذلك، لا تزال الأسئلة الكبرى تتردد في الشارع العراقي: هل ستكون هذه الانتخابات نقطة تحوّل حقيقية؟ أم أنها ستنتهي كسابقاتها، مخلفةً وراءها خيبة أمل جديدة تُضاف إلى سجل الإحباطات الطويل؟

منذ عام 2003 لم تشهد البلاد حكومة استطاعت أن تضع مصلحة العراق فوق مصالح الأحزاب، ولم يختبر العراقيون تجربة سياسية تكرّس مفهوم الدولة بمعناه الحقيقي: دولة العدالة والمواطنة والمؤسسات. اليوم، يعلّق الشعب آماله على وجوه جديدة وبرلمان جديد، لعلّه ينجح أخيرًا في كسر حلقة المحاصصة والطائفية ويفتح الباب أمام مشروع وطني جامع.

ما إن أعلنت نتائج الانتخابات حتى بدأ المزاج العام ينحرف بين التفاؤل الحذر والشك المتجذر. فالكثير من العراقيين يخشون أن تتكرر التجارب السابقة، حيث تُطلق الوعود سخيّة قبل الانتخابات، ثم تتبخّر بمجرد وصول المرشحين إلى مقاعد السلطة. وعلى الرغم من هذا القلق الشعبي، يبرز صوت آخر يدعو لعدم الاستسلام لخيبة الماضي، مؤكّدًا أن التغيير الحقيقي، وإن كان بطيئًا، يبدأ من لحظة وعي المواطن ويقظة الرأي العام. فقد أصبح العراقيون اليوم أكثر قدرة على مراقبة أداء السياسيين، وأكثر جرأة في محاسبتهم، وأشدّ وعيًا بمصالحهم الوطنية.

تأثير الإقليم… وافتتاح فصل جديد من التجاذبات الدولية

وإذا كان الرهان المحلي على التغيير ضروريًا، فإن التحدي الأكبر يكمن في تشابك الساحة العراقية مع التأثيرات الإقليمية والدولية، التي غالبًا ما تُعيد رسم مسار العملية السياسية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وإن إسهابنا في بناء بعض الآمال على ما ستتمخض عنه نتائج الانتخابات لا ينفصل عن إدراك العراقيين لعمق النفوذ الإقليمي، وعلى رأسه التأثير الإيراني الذي تمدد لعقود داخل مفاصل الدولة، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، حتى أصبح جزءًا لا يمكن تجاهله في أي معادلة حكم.

وفي موازاة ذلك، تشهد المنطقة تحولات جديدة مع عودة النشاط الأميركي في الساحة العراقية، خصوصًا بعد المهمة التي أسندت لممثل الرئيس الأميركي الخاص مارك سافاياو، والذي أُنيطت به متابعة الملفات السياسية والأمنية في ظل واقع متغيّر على مستوى الإقليم. وتأتي هذه التحركات بالتزامن مع توجهات الإدارة الأميركية الحالية التي تسعى إلى صياغة دور جديد في الشرق الأوسط، عنوانه إدارة النفوذ بدلًا من الانسحاب، وخلق توازنات جديدة قد تعيد رسم ملامح المشهد العراقي.

هكذا يجد العراق نفسه، مرة أخرى، في قلب التجاذب بين محوري:

  •  محور إقليمي يسعى للحفاظ على نفوذه وتوسيع تأثيره،
  • ومحور دولي يراقب المتغيرات ويحاول إعادة تموضعه وفق مصالحه الاستراتيجية.

وفي هذا الاشتباك، لا يملك العراق ترف الخطأ؛ فكل خطوة داخلية بات لها صدى خارجي، وكل قرار سياسي قد يصبح رهانًا دوليًا قبل أن يكون قرارًا وطنيًا.

لطالما شكلت الطائفية السياسية والمحاصصة الحزبية العقبتين الأكبر أمام بناء دولة قوية قادرة على خدمة مواطنيها. والسؤال المطروح اليوم على طاولة النقاش السياسي: هل يستطيع المنتخبون الجدد تجاوز هذه المعادلة التي أنهكت البلاد؟

فالتجارب أثبتت أن نظام المحاصصة لم ينتج سوى حكومات ضعيفة، ووزارات مشلولة، وقرارات مسيّرة من خارجها. وإذا ما قرر البرلمان الجديد الاستمرار في هذا النهج، فإن أي تغيير حقيقي سيكون مستحيلًا. أما إذا تحلّى النواب بجرأة كافية لكسر هذه الدائرة المفرغة، عندها فقط يمكن للعراق أن يبدأ مسار التعافي.

في كل انتخابات، تتجدّد الوعود نفسها: محاربة الفساد، تنشيط الاقتصاد، تحسين الخدمات، توفير فرص العمل. لكن هذه الوعود تظل بلا قيمة إذا لم يقترن الخطاب السياسي بإرادة حقيقية في تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والجهوية والفردية.

اليوم يختبر الشعب العراقي صدقية ممثليه. فإما أن يثبتوا أنهم على قدر الثقة التي منحها لهم المواطن، وإما أن يسقطوا في أول اختبار حين تتعارض مصالح العراق مع مصالح أحزابهم. إن مسؤولية المرحلة المقبلة ليست بسيطة، فالعراق منهك، وبناه التحتية متهالكة، وملفاته العالقة معقدة، لكن تحقيق التغيير ممكن إذا توفر قرار وطني صادق.

يحلم العراقيون بوطن يحتضن أبناءه جميعًا دون تمييز أو إقصاء، وطن تكون فيه المواطنة أساس الهوية، ويكون القانون ضامنًا للعدالة، وتغيب فيه أساليب التشكيك والانقسام. فالعراق بلد غني بموارده وثقافته وتاريخه، لكنه بحاجة إلى قيادة سياسية تدرك حجم هذا الإرث وتعي مسؤولية الحفاظ عليه.

إن ما ينتظره الشعب ليس مجرد تشكيل حكومة جديدة، بل بناء دولة جديدة—دولة تُستعاد فيها الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكم، ويكون فيها الإصلاح مشروعًا وطنيًا لا شعارًا انتخابيًا.

بعد انتهاء الانتخابات، يقف العراق أمام فرصة قد لا تتكرر. فإما أن تستمر الدائرة ذاتها من الوعود المهدورة والصراعات الطائفية والتجاذبات الإقليمية، وإما أن يتحول البرلمان الجديد إلى مؤسسة وطنية قادرة على الإمساك بزمام المبادرة، وفرض أولويات العراق على خريطة المصالح المتصارعة.

لقد منح الشعب العراقي صوته، لكنه لم يمنح تفويضًا مطلقًا. وللمرة الأولى منذ سنوات، يجد المنتخبون أنفسهم أمام اختبار مزدوج: اختبار أمام شعب أنهكته أزمات الداخل، واختبار آخر أمام عالم يتغيّر بسرعة، ويحاول كل طرف فيه أن يجد موطئ قدم في العراق.

إن كتب قادة العراق فصلًا جديدًا في تاريخ البلاد، فسيكون فصلًا لنهضة طال انتظارها. وإن أخفقوا، فسيدفع الشعب الثمن مجددًا، وسيكتب التاريخ فصلًا آخر من الفوضى والتراجع.

العراق يستحق الأفضل… وشعبه يستحق وطنًا يليق بتضحياته وكرامته ومستقبله.

واللحظة الفاصلة قد لا تأتي مرة أخرى.

اترك تعليقًا

عرض
Drag