دمشق.. كنيسة القديس حنانيا ذاكرة حيّة توثّق بداية المسيحية في الشرق
تقارير
الأخبار العاجلة
شفق نيوز- دمشق
في زقاق ضيق من أزقة حي باب شرقي العريق في دمشق القديمة، يقودك درجٌ حجري صغير إلى عالمٍ آخر، ينخفض عن سطح الشارع بنحو ثلاثة أمتار، تحت الأرض، تقع كنيسة القديس حنانيا، أحد أقدم الأماكن المسيحية في العالم، والتي يُعتقد أنها كانت بيت القديس حنانيا الدمشقي الذي استقبل بولس الرسول بعد تحوّله من مضطهِدٍ للمسيحيين إلى واحدٍ من أعظم رسلهم.

وتُعتبر الكنيسة التي تقع في نهاية “الشارع المستقيم”، بعد قوس باب شرقي، أهم المعالم الدينية في دمشق، إذ تشير الروايات الكنسية إلى أن حنانيا، أحد تلاميذ المسيح في القرن الأول الميلادي، كان يسكن هذا المنزل.
ويقول الأب جورج رزق، كاهن الكنيسة الحالي في حديث لوكالة شفق نيوز: “حسب الروايات يُقال أن الرب أمر حنانيا في رؤيا بأن يذهب إلى شاؤول الطرسوسي الذي أُصيب بالعمى أثناء طريقه إلى دمشق، ليعيد إليه بصره ويُعمّده باسم المسيح. هذا الحدث وقع في هذا المكان، لذلك يُعدّ من أهم محطات الإيمان المسيحي في المشرق“.

وتؤكد الحفريات أن البناء الحالي للكنيسة يعود إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي، أي إلى الحقبة البيزنطية، لكن أساساته الأقدم تمتد إلى عصر الرومان الأوائل، وعلى مر القرون، تعرّض الموقع للترميم مرات عدة، أبرزها في القرن التاسع عشر، ثم بعد الحرب السورية الأخيرة للحفاظ عليه كمعلَم حيّ يستقبل الزوار من مختلف الطوائف.
بين التاريخ والعمارة
يدخل الزائر الكنيسة عبر درج حجري يؤدي إلى قبوٍ منخفض السقف، يتكوّن من غرفتين صغيرتين تُزيّنهما الأيقونات والشموع، الجدران مبنية من الحجارة القديمة، فيما يُحافظ السقف المقوس على طابع العمارة السورية المبكرة.
ويشرح المؤرخ الدمشقي الدكتور نادر العثمان في حديث لوكالة شفق نيوز، إن “الكنيسة نموذج فريد من عمارة ما قبل البيزنطيين، تُجسّد كيف كانت المنازل الأولى تُحوّل إلى أماكن عبادة سرّية زمن الاضطهاد الروماني، بعدها تحوّلت إلى معبد علني بعد اعتراف الإمبراطورية بالمسيحية في القرن الرابع الميلادي“.
ويضيف العثمان، أن “هذا المكان معلم أثري، وذاكرة حيّة توثّق بداية المسيحية في الشرق، وتكشف كيف انتقلت من الخفاء إلى النور داخل أزقة دمشق“.
حي باب شرقي.. التعايش القديم
الكنيسة تقع في أحد أكثر أحياء دمشق تجذراً في التاريخ، فيه تعايش المسلمون والمسيحيون واليهود قروناً طويلة، دون أن تُفرّقهم الديانة أو الطقوس، الأمر الذي شكّل على مر العصور صورةً مصغّرة لدمشق المتعددة، حيث تتجاور المآذن مع الأجراس، ويظلّ الناس يروون قصصهم المشتركة.

خلال سنوات الحرب، تعرّض الحيّ لعدة قذائف وسقطت قرب الكنيسة، ما أدى إلى أضرار طفيفة، لكن سرعان ما بادرت جهات كنسية ومحلية إلى ترميمها.
ورغم تقلّص عدد العائلات المسيحية في المنطقة، إلا أن الكنيسة ما تزال تُقيم الصلوات بانتظام، وتستقبل الزوار والسياح من مختلف الجنسيات.
رمز ديني وإنساني
ويؤكد المؤرخ العثمان أن “كنيسة حنانيا تمثل حلقة وصل بين الماضي والحاضر، بين ما هو روحي وما هو إنساني“.
وأضاف: “من هذا المكان انطلقت أول دعوة للتسامح المسيحي الحقيقي، حين شفى حنانيا شخصاً كان يعتبره عدواً. هذه الرسالة تتجاوز الدين لتصل إلى جوهر الإنسانية“.
واليوم، بينما تسعى دمشق لاستعادة وجهها الثقافي بعد سنوات من الحرب، تبدو كنيسة حنانيا رمزاً لهذا الوجه؛ مدينة تعانق ماضيها.
