Skip links

تصريحات توم باراك وتأثيرها على المشهد السياسي العراقي بعد الانتخابات

الدكتور رافع سحاب الكبيسي

أثارت تصريحات المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب، توم باراك، اهتمامًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية العراقية حيث قدم المبعوث الخاص للرئيس الأميركي رؤية نقدية حادة للتجربة الأميركية في العراق، اكتسبت هذه التصريحات أهمية مضاعفة حيث ترافقها رسائل سياسية تتجاوز الإطار التقييمي إلى وضع أسس موجّهة للمرحلة المقبلة من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وتسلّط هذه التصريحات الضوء على تحولات جوهرية في أولويات واشنطن وفي إدراكها لطبيعة النظام السياسي العراقي، بما يشمل بنية السلطة، وتوازن القوى بين الدولة والفاعلين المسلحين، ودور إيران، وموقع العراق في الاستراتيجيات الدولية المستجدة، ولقد تميزت آراء باراك بالجرأة والخروج علن المألوف، ما اضفى على تصريحاته وقعاً لافتاً داخل العراق وخارجه.

ومن أهم ما جاء في تصريحات توم باراك وتقييم التجربة الأميركية في العراق، اعتمد باراك في حديثه على سردية نقدية صريحة، وصف فيها العراق بأنه مثال لا ينبغي أن يتكرر، وصفا باراك التدخل الأميركي في العراق بأنه خطأ استراتيجي كبير في إشارة إلى أن عشرين عامًا من التدخل، وثلاثة تريليونات دولار من الإنفاق، ومئات الآلاف من الضحايا لم تُفضِ إلى نتائج استراتيجية مقبولة. وقدّم رؤية تشبه الحالة العراقية والسورية بمسارات البلقنة، حيث تتولد كيانات شبه فيدرالية متنازعة قصيرة الأمد، شبيهة بما حدث في يوغوسلافيا قبل تفككها إلى وحدات سياسية متحاربة. هذه البلقنة، بحسب باراك، ستنتج صراعات داخلية لا تنتهي.

منتقداً النظام السياسي الذي أُرسي بعد 2003 والذي لم يُنتج مؤسسات قادرة على إدارة الدولة، بل رسّخ مشهداً تتفوق فيه سلطة الفصائل المسلحة على سلطة البرلمان والحكومة، الأمر الذي جعل رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، بحسب تعبيره، ناجحاً جداً ولكنه مقيد أمام القوى الموازية للدولة.

وحول النفوذ الايراني والمستوى التي وصلت اليه في العراق تطرح تصريحات باراك تقييمًا واضحًا له، معتبرًا أن طهران ملأت الفراغ الجيوسياسي” عبر وكلاء سياسيين ومسلحين أصبحت لهم اليد العليا داخل المؤسسات العراقية بعد انسحاب القوات الأميركية، وأن العراق بات الساحة الأهم لإيران مقارنة بتراجعها في ساحات إقليمية أخرى، مثل اليمن وسوريا ولبنان وغزة. ويرى أن الفصائل العراقية تمارس سياسة مزدوجة، إذ تُبقي قنوات مفتوحة مع واشنطن دون التخلي عن ارتباطاتها الاستراتيجية بطهران. وتلفت تصريحاته إلى أن إيران لن تتخلى عن العراق بسهولة، لأنه يمثل آخر مساحة نفوذ مكتملة بعد خسارات متتالية في محيطها الإقليمي.

شدد باراك في تصريحات على أن واشنطن لا تعتزم زيادة قواتها و لن تعود للاستثمار العسكري أو المالي الكبير في العراق ، وأن النموذج الأميركي لعام 2003 لن يتكرر بأي شكل. الرسالة الأساسية هنا هي أن العراق يعيش حالة فوضى بنيوية، وأن الولايات المتحدة لن تتحمل أعباء إعادة إنتاج الاستقرار، بل ستسعى إلى إدارة النفوذ عبر أدوات سياسية ودبلوماسية لا عسكرية.

كما تشير تصريحاته إلى أن النظام السياسي العراقي بات يماثل النموذج اللبناني من حيث الشلل الوظيفي، وتعطل القرار، وإنتاج الفساد عبر بنية مؤسسية معطوبة، وليس فقط عبر سلوك أفراد.

تشكل تصريحات باراك جزءًا من خطاب أوسع يعكس إعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة، حيث ينتقل تركيز واشنطن نحو:

  • محيطها الحيوي في الكاريبي وأميركا اللاتينية،
  • واحتواء الصين عبر أدوات متعددة،
  • وزجّ الحلفاء الآسيويين الأقوياء في هندسة توازن جديد.

وفي هذا السياق، تظهر سمة لافتة للمرة الأولى يتم استبعاد روسيا من خانة “العدو”، وعدم إظهار أي التزام خاص بالدفاع عن أوروبا. يمثل هذا تحولًا مهمًا في بنية التفكير الاستراتيجي الأميركي، ويعكس تراجع مركزية التحالفات التقليدية في حسابات القوة الأميركية مقارنة بالتركيز على التنافس مع الصين.

اما عن العلاقة مع ايران ومعايير الانخراط الدبلوماسي يرى باراك أن الرئيس ترامب مستعد لمفاوضات “حقيقية” مع إيران، شريطة أن تكون بلا مماطلة أو إضاعة للوقت، وأن تلتزم طهران بـــ:

  • ضبط مستويات التخصيب النووي،
  • وقف تمويل الوكلاء الإقليميين.

تأتي هذه التصريحات في مرحلة حساسة ما بعد الانتخابات حيث يحاول العراق فيه تشكيل حكومة جديدة وإعادة ترتيب موازين القوى. ويمكن تلخيص تأثيراتها في النقاط الآتية:

  1. تزايد الضغوط على القوى السياسية لإنتاج حكومة متوازنة ومقبولة دوليًا.
  2. إعادة فتح النقاش حول بنية النظام السياسي ودور الفصائل في تشكيل القرار.
  3. تعزيز مسار المطالبة بإصلاحات بنيوية في مؤسسات الدولة.
  4. تحديد سقف واضح للدور الأميركي: دعم سياسي محدود، دون التزام عسكري أو مالي.
  5. إعادة تموضع العراق في سياق التنافس الأميركي–الإيراني بدل التنافس الأميركي–الروسي أو الأميركي–الأوروبي، ما يعيد تشكيل هندسة العلاقات الإقليمية.

تكشف تصريحات توم باراك عن تحوّل بنيوي في نظرة واشنطن للعراق والمنطقة، يقوم على تقييم نقدي للتجربة الأميركية السابقة، وإعادة تعريف لموقع العراق في الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة. وعلى الرغم من حدّتها، فإن هذه التصريحات تعكس – في عمقها – محاولة لإعادة صياغة قواعد الاشتباك السياسي والدبلوماسي في الشرق الأوسط بعيدًا عن النماذج التدخلية الثقيلة.

وبالنسبة للعراق، فإن مستقبل المرحلة المقبلة سيتحدد بقدرته على التعامل مع هذه الرسائل دون الانجرار إلى مزيد من الانقسام أو الصراع الداخلي، وقدرة القوى السياسية على إنتاج تسويات مستدامة، وعلى استعداد الفاعلين الدوليين والإقليميين للقبول بالعراق كدولة مستقلة لا كساحة نفوذ مفتوحة.

ومع اقتراب العراق من لحظة سياسية فاصلة بعد الانتخابات، تأتي تصريحات باراك لتعيد طرح سؤال جوهري: هل يستطيع العراق إصلاح نظامه السياسي قبل أن يصل إلى نقطة اللاعودة؟

ويمثل العراق، وفق هذا المنظور، ساحة اختبار حاسمة:

هل يستطيع إعادة بناء نظام سياسي قادر على احتواء الفاعلين المسلحين وإعادة هيكلة السلطة؟ أم أنه يتجه إلى مسارات “البلقنة” التي تحدث عنها باراك؟

اترك تعليقًا

عرض
Drag