تجربة نزوح قاسية يواجهها مئات الآلاف من الغزيين
تقارير
في ساعة مبكرة من صباح يوم صيفي حار، انطلق الغزي أحمد الشنطي (56 عاماً) في رحلة نزوح جديدة، نحو مصير مجهول لا يعلم عنه شيئاً؛ فقد كان مجبراً على ترك منزله في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، تحت نار القصف الجوي والمدفعي.
وبدأ الشنطي رحلة بحث شاقة عن مكان يؤويه وعائلته المكونة من 16 فرداً، ويوفر لهم ولو قدراً بسيطاً من الأمن والأمان.
كان عثوره، هو ومئات الآلاف غيره من سكان مدينة غزة، على مأوى ينجيهم من جحيم الصواريخ والعربات العسكرية المفخخة أشبه بالمعجزة، بينما تدمر العملية العسكرية الإسرائيلية المكثفة ما تبقى من المدينة، مع تركيز الهجمات على الأحياء المكتظة بالسكان والنازحين وعلى ما بقي من مبانٍ سكنية.
ورغم النزوح المتكرر، كانت هذه المرة هي الأقسى على أهالي مدينة غزة الذين تركوا منازلهم من قبل ولاذوا بوسط القطاع وجنوبه، ثم تنقلوا بعدها مرتين على الأقل، في حين نزح آخرون داخل المدينة نفسها، هرباً مما يحدق بهم من خطر داهم.
عجز وقهر
يروي الشنطي تجربة نزوحه الجديدة، ويقول: تمثلت فيها «كل معاني العجز والقهر».
ويستطرد في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، فيقول: «كل من مر بهذه التجربة واجه ظروفاً لم يرها من قبل».
ففي نزوحه الأول إلى رفح أقصى جنوب القطاع، مع بدايات الاجتياح البري في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) 2023، خرج من منزله تحت القصف مجبراً، لكنه لم يحمل معه سوى بعض الملابس البسيطة، على أمل العودة قريباً.
لم يكن يعرف أن البُعد سيطول لأكثر من عام، فارق فيها بيته ومدينته قبل أن يعود إليها ويقيم في منزله المتضرر جزئياً.
غير أن النزوح هذه المرة مختلف، فهو يترك بيته وهو يخشى تدميره بعد أن لجأت القوات الإسرائيلية في الأشهر الماضية لسياسة نسف وتفجير ممنهجة لا تترك فيها مبنى على حاله.
يحمل النازحون معهم هذه المرة أمتعتهم، لا يعلمون متى سيعودون، أو حتى إن كانوا سيعودون أصلاً، وسط حملة تدمير لا تُبقي ولا تذر. يخرجون من المدينة، منهكين نفسياً وجسدياً ومادياً، لا يملكون المال للانتقال، وإن وجدوه فالمركبات المهترئة تزيد من قسوة النزوح، وأسعار النقل طاحنة، ولا أماكن متوافرة لاستقبال النازحين؛ فإن توفرت فالإيجار باهظ، حتى ولو كانت المساحة المنشودة مجرد أرض قاحلة.

مركبات متهاوية محملة بأمتعة النازحين من مدينة غزة (الشرق الأوسط)
يقول الشنطي: «منذ قررت أنا وعائلتي النزوح، صُدمنا من هول أعداد النازحين الذين ينتظرون دوراً طويلاً حتى يجدوا مركبة تنقلهم وأمتعتهم إلى جنوب القطاع».
ويستطرد: «بقيت أبحث عدة أيام عن مركبة قادرة على نقلنا دون مشاكل، فغالبية المركبات المتوفرة مهترئة وتتعطل في الطريق. واجهنا صعوبات بسبب الطلب الشديد على المركبات. وبعدما وصلت إلى أحد السائقين، طلب مني الانتظار 3 أيام حتى يحل دوري. وبعد هذه المدة، وعند موعد الانطلاق، فوجئت أنه حدد لحظة وصوله عند الثانية فجراً، ثم أجَّل الوقت بسبب ظروف الازدحام إلى السادسة صباحاً. وبعدما حمَّلنا أمتعتنا، تحركنا من مخيم الشاطئ في السابعة».
الزحام شديد والأسعار فلكية
وبمرارة يمضي الشنطي في روايته: «كان الطريق مزدحماً جداً بأعداد المركبات التي تنقل المواطنين. استمرت رحلتنا أكثر من 8 ساعات ونصف الساعة، انطلاقاً من مخيم الشاطئ وصولاً إلى تبة النويري غرب مخيم النصيرات وسط قطاع غزة؛ ثم مضت ساعة أخرى حتى وصلنا إلى منطقة مواصي القرارة شمال خان يونس جنوب القطاع».
كان الزحام شديداً لكثرة أعداد النازحين وعدد المركبات التي تمر من طريق الرشيد الساحلي والوحيد المخصص للنزوح، إلى جانب تعطل كثير من العربات، مما زاد من التكدس ومن تأخر الحركة.
ورغم كل هذه الصعوبات، يرى الشنطي أن الحظ حالفه حين تمكن من إيجاد مكان ينزح إليه بعدما نجح نجله البكر في ذلك بعد رحلة ذهاب وإياب استمرت عدة أيام للبحث عن مكان في خان يونس.
نجح هو، لكنّ كثيرين غيره لم ينجحوا.

نازحون من شمال غزة يتجهون جنوباً يوم الخميس (رويترز)
وما إن وصل الشنطي إلى قطعة الأرض التي تبلغ مساحتها نحو 500 متر، التي استأجرها مقابل 1000 شيقل شهرياً (ما يعادل نحو 300 دولار)، حتى واجه عقبات أخرى تتمثل في إيجاد الخشب ولوازم إقامة مأوى على الأرض المفتوحة، أو الخيام الجاهزة التي لا تتوافر بسهولة، فإن توافرت كانت بأثمان باهظة.
ويتراوح ثمن الخيمة من 2000 إلى 3500 شيقل (من 600 إلى 1045 دولاراً)، في حين يصل سعر متر الخشب الواحد إلى 90 شيقلاً (27 دولاراً). أما سعر الشادر الذي تبلغ مساحة نحو 4 في 6 أمتار فيصل إلى 600 شيقل (نحو 180 دولاراً)، ويصل ثمن تركيبها لما يقرب من 2000 شيقل (نحو 600 دولار).
ويقول الشنطي: «هذه أسعار فلكية لم تكن في موجة النزوح الأولى، لكن حالياً تجار الحروب يستغلون الظروف القاسية التي نعيشها، ويبيعون ما يتوفر لديهم من مواد وما يُسرق من مساعدات مثل الشوادر والخيام ويبيعونها بهذه الأثمان الباهظة».
ويشير إلى أن التجار يشترطون البيع بالسيولة النقدية والتي لا تتوفر لدى السكان، وفي حال استطاع المواطن توفيرها من بعض التجار كان المقابل دفع عمولة تصل إلى 40 في المائة، ومن ثم تكون التكلفة الإجمالية كبيرة جداً، لمجرد العيش في مكان بأبسط مقومات الحياة.
أما توفير المياه في المكان الجديد فمأساة أخرى يضطر فيها أبناء الشنطي للسير يومياً لمسافة ليست بالقليلة، ثم الاصطفاف في طابور طويل لأكثر من ساعة، من أجل الحصول على 22 لتراً من المياه الصالحة للشرب، وعلى نحو 200 لتر من المياه المخصصة للاستخدام الآدمي، كل يومين.

فلسطينيون يجلبون مياهاً بمنطقة الزوايدة بوسط قطاع غزة يوم الخميس (رويترز)
يقول: «نعاني ظروفاً قاسية لتوفير أبسط مقومات الحياة. بعدما استقررنا نسبياً في منازلنا التي عدنا لها بعد الهدنة الأولى في يناير (كانون الثاني) الماضي، ها نحن نعود للمعاناة من جديد في ظروف مريرة».
النزوح سيراً
وبينما ابتسم الحظ قليلاً للشنطي عندما تمكن من إيجاد مركبة تنقله وعائلته وأمتعته للجنوب، اضطرت عوائل كثيرة للسير على الأقدام من مدينة غزة وصولاً إلى وسط القطاع، وقطع مسافة لا تقل عن ستة كيلومترات من ميناء غزة وحتى تبة النويري بالنصيرات، في رحلة قاسية امتدت لأكثر من ست ساعات، حاملين فيها أهم الأمتعة التي تخصهم وأبناءهم.
وهناك من الأسر من أمضى ساعات أطول لقطع مسافات أكبر.
من بين هؤلاء سامي النجار (32 عاماً)، وهو من سكان حي الشيخ رضوان بشمال مدينة غزة، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه تناوب هو وزوجته على حمل أمتعتهما وأطفالهما الثلاثة في رحلة النزوح من الحي إلى مخيم النصيرات بعدما فشلوا في إيجاد مركبة تقلهم بأسعار في متناولهم.
وكثيراً ما اضطر النجار وعائلته للجلوس على قارعة الطريق بعدما خرجوا من غزة في وقت مبكر من الصباح طمعاً في تجنب ساعات ذروة الزحام.
بالكاد تمكن النجار من العثور على قطعة أرض مفتوحة مساحتها 60 متراً، دفع مقابل استئجارها ما يقرب من 150 دولاراً، وسط ظروف قاسية في توفير المياه والطعام بسبب بُعد الأسواق وغلاء الأسعار.
ورغم هذا، كانت أيضاً حالته أفضل من غيره ممن لم يجدوا أي مكان يضمهم.
