الانتخابات العراقية.. العشيرة تفرض كلمتها وتصوّت قبل الناخب
تقارير
في المشهد السياسي العراقي، حيث تتقاطع الولاءات وتتداخل الانتماءات بين المذهب والقومية والحزب، تبقى العشيرة واحدة من أقوى الأواصر الاجتماعية وأكثرها تأثيراً في صناعة القرار الانتخابي، فمهما تغيرت الأنظمة وتعاقبت الحكومات، ظلّ الانتماء العشائري عاملاً حاسماً في توجيه بوصلة الأصوات، الأمر الذي يدفع جميع المرشحين للانتخابات التوجه أولاً صوب هذا الخيار.
في القرى والأرياف، وحتى في المدن الكبرى، ما تزال الخيمة العشائرية تُنافس المنبر السياسي، والولاء للعائلة والقبيلة غالباً ما يسبق الولاء للدولة أو للفكرة، فالعشيرة لا تكتفي بدور اجتماعي تقليدي، بل أصبحت لاعباً فاعلاً في العملية الانتخابية، تدعم مرشحيها، وتنظّم الحملات، وتوجّه الناخبين، لتتحول من رمز للهوية الاجتماعية إلى قوة سياسية لا يمكن تجاهلها.
لكن هذا الدور دائماً ما يثير جدلاً واسعاً بين مؤيد ومعارض، فبينما يرى البعض أن دعم العشائر لمرشحيها يسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي والتمثيل الشعبي الحقيقي، يحذّر آخرون من أن هذا النمط من التصويت يُضعف فكرة الدولة المدنية ويُكرّس الانقسام على أسس عشائرية ومناطقية.
وانطلقت، الجمعة (3 تشرين الأول/ أكتوبر 2025)، الحملة الدعائية الخاصة بالانتخابات البرلمانية العراقية بشكل رسمي، بعد مصادقة مجلس المفوضين في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات على قوائم المرشحين النهائية.
ووفقاً لبيان المفوضية، بلغ عدد المرشحين المصادق عليهم 7768 مرشحاً، بواقع 5520 من الذكور و2248 من الإناث، على أن تنتهي الحملات الانتخابية في الساعة السابعة من صباح يوم السبت الموافق 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، قبل ثلاثة أيام من موعد الاقتراع.
الأحزاب حولت العشائر إلى ساحة صراع انتخابي
ويحذّر الشيخ حميد الشوكة، المتحدث باسم مجلس أمناء الأنبار، من تنامي ظاهرة استغلال الأحزاب السياسية للعشائر خلال المواسم الانتخابية، مؤكداً أن هذا السلوك أدّى إلى تفكك داخلي ونزاعات حادة بين أبناء العشيرة الواحدة.
ويقول الشوكة، لوكالة شفق نيوز، أن “بعض الأحزاب باتت تصرف أموالاً طائلة على العشائر بهدف كسب ولائها الانتخابي، عبر دعم مرشحين تختارهم تلك الأحزاب من داخل عشائر معينة، ما يتسبب في صراعات داخلية عندما يتعدد المرشحون من العشيرة نفسها وتختلف انتماءاتهم السياسية“.
ويضيف أن “هذه الممارسات أدت إلى تشويه العملية الديمقراطية، حيث يجري أحياناً إجبار أبناء العشيرة على انتخاب مرشح معين بدعم من رؤساء العشائر أو القوى السياسية المتنفذة، ما يقلّل من حرية الناخب ويحوّل الانتخابات إلى سباق نفوذ بدلاً من تنافس برامج”، لافتاً إلى أن “المال السياسي أصبح يهيمن على المشهد العشائري في العراق“.

ويختم الشيخ حديثه بالإشارة، إلى أن “تأثيره الواضح في الدورات الانتخابية السابقة انعكس سلباً على أداء مجلس النواب وعلى طبيعة التمثيل السياسي فيه”، مشيراً إلى “ضرورة تحصين العشائر من الاختراق السياسي والمالي وإعادة دورها الطبيعي في دعم القيم الوطنية والاجتماعية، بعيداً عن ضغوط الأحزاب ومغريات المال الانتخابي“.
وتنشر المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بشكل دوري، قرارات تتضمن استبعاد أو إلغاء مصادقة بعض المرشحين، فضلاً عن فرض غرامات مالية تتراوح بين 2 و10 ملايين دينار عراقي على المرشحين الذين يخالفون ضوابط الحملة الانتخابية.
حيث أكدت المفوضية، في بيانات عديدة أن الغرامات تُستقطع من التأمينات المالية التي أودعها المرشحون مسبقاً، وأن الرقابة ستستمر حتى يوم الاقتراع لضمان نزاهة العملية الانتخابية وعدالتها.
“البنية العشائرية” تسيطر على المشهد الانتخابي
إلى ذلك، يقول الباحث السياسي والأكاديمي العراقي غالب الدعمي، إن “ظاهرة التصويت على أسس عشائرية وطائفية وقومية ما زالت راسخة في المشهد السياسي العراقي، وتشكل امتداداً لطبيعة النظام الاجتماعي والسياسي القائم منذ سنوات طويلة“.
وفي حديث لوكالة شفق نيوز، يوضح الدعمي، أن “الدعم الانتخابي في العراق غالباً ما يتوزع وفق الانتماءات العشائرية أو المذهبية أو القومية”، مشيراً إلى أنه “من النادر أن يصوّت ناخب عربي لمرشح كردي، أو كردي لمرشح عربي، وكذلك الحال بين التركمان وبقية المكونات“.
ويتابع الباحث السياسي، قائلاً إن “هذه الظاهرة ليست وليدة المرحلة الحالية، بل هي جزء من البنية السياسية والاجتماعية للبلاد، وتنعكس بوضوح على نتائج الانتخابات وعلى طبيعة تشكيل البرلمان والحكومة”، مبيناً أن “البرلمان العراقي غالباً ما يكون أضعف من السلطة التنفيذية نتيجة لتغليب الاعتبارات المذهبية والقومية على المصلحة الوطنية“.
ويضيف الدعمي، أن “التوافقات بين الكتل تكون في الغالب على أساس الانتماء وليس على أساس البرامج أو القوانين”، موضحاً أن “هذا الواقع يحدّ من فاعلية البرلمان ويجعل تأثيره أقل مقارنة بالحكومة، التي تستفيد من تشتت المواقف داخل المؤسسة التشريعية بسبب الولاءات الضيقة والتجاذبات المذهبية والقومية“.
وحدد مجلس الوزراء العراقي يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 موعداً رسمياً لإجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة، حيث يحق لنحو 30 مليون عراقي من أصل 46 مليون نسمة الإدلاء بأصواتهم لاختيار ممثليهم في مجلس النواب الجديد، وفقاً للبيانات الرسمية.
“ظاهرة إيجابية”.. لكن بشرط

في غضون ذلك، يقول الشيخ شياع محمد البهادلي، الشيخ العام لعشيرة البهادل، خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، إن “دعم العشائر لمرشحيها في الانتخابات يُعد ظاهرة إيجابية ومهمة، شريطة أن يُوجَّه هذا الدعم نحو الأشخاص الأكفاء وذوي الأخلاق العالية الذين يسعون لخدمة وطنهم ومجتمعهم“.
وبحسب حديث البهادلي، فإن دعم العشيرة يجب أن يكون لمن يتمتع بسمعة طيبة وسيرة حسنة، وليس لمن يسعى لتحقيق مصالح شخصية أو يستخدم المال والنفوذ للوصول إلى السلطة، مؤكداً أن ترشيح أصحاب الكفاءة والنزاهة من أبناء العشائر يعزز من دور العشيرة الإيجابي في بناء الدولة.
“العشيرة التي تدعم المرشحين الصالحين تُسهم في رفع مستوى العمل النيابي والوطني، أما دعم الأشخاص غير المؤهلين فيعدّ أمراً مرفوضاً ومخالفاً للأعراف العشائرية والدينية، لأن الهدف من المشاركة في الانتخابات هو خدمة العراق لا تحقيق المكاسب الشخصية”، كما تحدث به الشيخ.
ودعا البهادلي، إلى أن يكون ترشيح ودعم العشائر مبنياً على معايير أخلاقية ووطنية واضحة، مشيراً إلى أن ظاهرة انتخاب الشخصيات الجيدة من داخل العشيرة يمكن أن تنعكس إيجاباً على أداء البرلمان المقبل وعلى استقرار العملية السياسية.
ومع الحديث عن دور العشائر ودعمهم لمرشحيهم، وجّه البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم، رسالة مفتوحة إلى العراقيين عامةً والمسيحيين خصوصاً، دعاهم فيها إلى المشاركة الواسعة والمسؤولة في الانتخابات المقبلة.
وقال ساكو فيها إنّ “الكنيسة الكلدانية ترفض أن يُمثَّل المسيحيون من قبل شخصيات معروفة بفسادها أو تابعة لجماعات مسلّحة”، مبيناً أن “المكوّن المسيحي لن يكون وقوداً لمشاريع دخيلة أو أدوات بيد جهات خارجية“.
التأثير العشائري يضعف وعي الناخب
بينما يرى المحلل السياسي العراقي صباح العكيلي، خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، أن الرهان الحقيقي في الانتخابات المقبلة يجب أن يكون على وعي الناخب في اختيار المرشح الذي يمتلك الكفاءة والنزاهة والقدرة على تمثيل الشعب بصورة حقيقية، بعيداً عن الولاءات العشائرية والطائفية والمناطقية التي ما زالت تهيمن على المشهد الانتخابي.
ووفقاً لحديث العكيلي، فإن بعض زعماء العشائر والوجهاء باتوا يتعاملون مع أصوات ناخبيهم وكأنها مضمونة سلفًا لصالح مرشحين محددين، في مخالفة واضحة لمبدأ حرية الاختيار وقناعة الناخب الفردية، مضيفاً أن هذه الممارسات تنتقص من جوهر الديمقراطية وتفرغ العملية الانتخابية من مضمونها الوطني.
ويستطرد المحلل السياسي، في حديثه قائلاً إن التصويت على أساس الانتماء العشائري أو المناطقي لا يخدم العملية السياسية، بل يؤدي إلى تهميش الكفاءات الوطنية التي تمتلك برامج حقيقية للإصلاح والبناء، في حين تُمنح الأفضلية لمرشحين يملكون نفوذًا عشائريًا أو دعمًا مناطقيًا لا أكثر.
ويشدد العكيلي، على ضرورة تعزيز الوعي الانتخابي لدى المواطنين وتشجيعهم على اختيار المرشح الأكفأ بغض النظر عن العشيرة أو المذهب أو المنطقة، معتبراً أن ذلك هو السبيل الوحيد لبناء برلمان قوي قادر على تمثيل إرادة الشعب وتحقيق الإصلاح الحقيقي.
في سياق متصل، أعلن المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق أن عدد الصور الدعائية للمرشحين تجاوز المليون صورة في عموم المحافظات خلال اليومين الأولين من انطلاق الحملات الانتخابية.
وقال نائب رئيس المركز حازم الرديني، إن “غالبية هذه الصور نُصبت في جانب الرصافة من العاصمة بغداد، فيما تعرض عدد منها للتخريب لأسباب مجهولة”، مشيراً إلى أن فرق الرصد سجلت “عشرات المخالفات في اليوم الأول من الحملة، من بينها تعليق اللافتات على الجزرات الوسطية والمباني الحكومية”.
