الاعتراف بفلسطين… بين الرمزية السياسية وواقع الاحتلال وصمت العالم عن جرائمه
مقالات
كتب المحرر السياسي للتجمع
شهدت الساحة الدولية مؤخراً تسابقاً لافتاً من قبل عدد من الدول الأوروبية والغربية للاعتراف بدولة فلسطين. وبالرغم من أن هذه الخطوة بدت تاريخية للبعض، إلا أن السؤال الجوهري يبقى: هل سيكون هذا الاعتراف طوق نجاة فعلاً للشعب الفلسطيني من معاناةٍ دامت أكثر من 75 عاماً، أم أنه مجرد اعتراف رمزي (حبر على ورق) لحفظ ماء الوجه أمام الشعوب والإنسانية؟
لا يمكن إنكار أن الاعتراف بفلسطين يحمل قيمة معنوية كبيرة للشعب الفلسطيني، خاصة في ظل محاولات الاحتلال المستمرة لنفي وجوده وتشويه هويته. هذا الاعتراف يمثل كسراً لحاجز الصمت الغربي التقليدي، ويعكس تأثيراً متزايداً لضغط الرأي العام والشعوب التي لم تعد قادرة على تبرير جرائم الاحتلال. لكن هذه الرمزية، رغم أهميتها، لا تكفي وحدها لخلق تغيير ملموس على الأرض.
المفارقة أن هذه الاعترافات تأتي بعد سنوات من الصمت، بل التواطؤ، مع جرائم الاحتلال. فالضمير الذي يزعمون استيقاظه اليوم هو ذاته الذي مات منذ اللحظة الأولى التي سمح فيها للاحتلال بقصف أول مستشفى في قطاع غزة. تلك اللحظة لم تكن عابرة، بل شكلت وصمة عار على جبين العالم الصامت الذي اكتفى ببيانات “قلق” و”إدانة” شكلية، مما شجع الاحتلال على تكرار فعلته الشنيعة. وما لبثت الأخبار أن توالت عن قصف مستشفيات أخرى، حتى بات الأمر اعتيادياً، وكأن المرضى على أسِرّة الشفاء هم الإرهابيون، بينما المحتل الذي يمعن قتلاً وتهجيراً هو صاحب الحق! أمام هذه المأساة، لم يبقَ ضمير حي إلا على الورق. وهنا يتجلى التناقض: اعتراف بالدولة الفلسطينية على الورق، وصمت عن جرائم الاحتلال على الأرض.
من الناحية القانونية، الاعتراف بدولة فلسطين لا يغيّر من واقع الاحتلال شيئاً ما لم يُترجم إلى خطوات عملية، مثل:
- الضغط لوقف الحرب والحصار.
- محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب في المحاكم الدولية.
- فرض عقوبات سياسية واقتصادية على الاحتلال.
غياب هذه الأدوات يجعل الاعتراف مجرد ورقة دبلوماسية معلّقة، جميلة في العناوين لكنها هشّة في المضمون، عاجزة عن ردع الاحتلال أو حماية طفل من قصف أو لاجئ من تهجير. بل إن بعض الدول تستخدم الاعتراف كأداة لتخفيف الضغط الشعبي الداخلي، دون نية حقيقية لتغيير موازين القوى.
ولقد قدّم لنا التاريخ شواهد عديدة على أن الاعتراف الدولي بدولة لا يكفي وحده لتغيير واقعها:
- الجزائر قبل الاستقلال 1954–1962حصلت جبهة التحرير الوطني على اعتراف واسع من دول عديدة، لكن الاستعمار الفرنسي لم ينته إلا بعد حرب ضروس وتضحيات جسيمة.
- جنوب إفريقيا زمن الفصل العنصري: رغم الاعتراف الدولي بالحكومة المنتخبة ورفض شرعية نظام الفصل العنصري، لم يتحقق التغيير إلا حين تراكمت الضغوط الداخلية والخارجية معاً، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية وحركة مقاومة قوية.
- كوسوفو بعد التسعينيات: حصلت على اعتراف عدد كبير من الدول، لكن النزاع حول سيادتها استمر سنوات طويلة بسبب غياب توافق دولي شامل ورفض قوى كبرى الاعتراف بها.
هذه الأمثلة تؤكد أن الاعتراف، مهما كان مهماً، ليس سوى خطوة في طريق طويل، لا يكتمل إلا بإجراءات عملية ونضال داخلي يفرض نفسه على الواقع.
إلى جانب ذلك، يبرز خطاب آخر لا يقل خطورة: المطالبة بـ نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وهو تناقض قانوني وأخلاقي، وكأن العالم يريد شعباً أعزل في مواجهة آلة عسكرية هي من الأقوى والأشرس في العصر الحديث. هذه المطالب تتناقض مع أبسط مبادئ القانون الدولي، الذي يمنح كل شعب واقع تحت الاحتلال حق مقاومته بكافة الأشكال المشروعة ومنها:
- ميثاق الأمم المتحدة (المادة 51): يقرّ بحق الدفاع عن النفس ضد أي اعتداء مسلح، والاحتلال يُعد شكلاً من أشكال العدوان.
- اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية 1977 تعترف بحق الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية أو الاحتلال الأجنبي في النضال من أجل تقرير مصيرها.
- قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (37/43 عام 1982): أكدت “شرعية كفاح الشعوب في سبيل التحرر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية بجميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح“.
هذه النصوص تجعل المطالبة بنزع سلاح المقاومة الفلسطينية مطالبة غير قانونية، لأنها تنكر حقاً معترفاً به دولياً لكل الشعوب المقهورة.
القيمة الحقيقية لأي اعتراف لا تُقاس بعدد الدول التي توقع عليه، ولا ببيانات البرلمانات الباردة، بل بترجمته إلى أفعال تنعكس على حياة الفلسطينيين اليومية:
- هل يوقف آلة الحرب؟
- هل يعيد المهجرين؟
- هل يمنع قصف المستشفيات والمدارس؟
- هل تتم محاسبة المعتدي؟
- هل يُحترم حق الفلسطينيين في المقاومة كجزء لا يتجزأ من مسيرتهم نحو التحرر؟
ما دون ذلك، يبقى العالم يبيع الفلسطينيين كلمات منمقة، بينما يتركونهم وحدهم في مواجهة أعتى منظومة استعمارية في العصر الحديث. وسيبقى هذا الاعتراف شكلياً، أقرب إلى وثيقة حسن نوايا لا أكثر.
رغم محدودية تأثير هذه الاعترافات في الوقت الراهن، إلا أنها قد تمثل بداية تحول تدريجي في الرأي العام الغربي تجاه القضية الفلسطينية. فإذا تراكمت لتصبح سياسة أوروبية عامة، فقد تُجبر الحكومات الغربية على إعادة النظر في دعمها غير المشروط للاحتلال. كما قد تفتح الباب أمام تحركات أوسع في الأمم المتحدة، وتمنح الفلسطينيين زخماً إضافياً في المحافل القانونية والدبلوماسية.
لكن هذا السيناريو يظل مرهوناً بقدرة الفلسطينيين والعرب وحركات التضامن العالمية على تحويل الاعترافات الرمزية إلى أدوات ضغط سياسية واقتصادية. وإلا فسيبقى المستقبل نسخة مكررة من الحاضر: وعود واعترافات بلا أثر ملموس.
وفي النهاية ان الاعتراف بدولة فلسطين خطوة مهمة لكنها غير كافية. إن لم تُترجم إلى إجراءات عملية تردع الاحتلال وتضمن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، فستظل مجرد شعارات. ما يحتاجه الفلسطينيون ليس أوراقاً جديدة على رفوف الأمم المتحدة، بل تغييراً حقيقياً في ميزان العدالة الدولية يعيد الاعتبار لحقهم في الحياة والحرية والكرامة.
