أمام العراق فرصة.. وأميركا يمكن أن تساعد
عقيل عباس
ليس ثمة خلاف في أن نفوذ إيران الإقليمي قد تراجع كثيرا على أثر الرد الإسرائيلي الشرس والمتعدد الجوانب على هجوم السابع من أكتوبر. في السياق الأوسع لهذا الرد، فقدت إيران حليفها التاريخي والتقليدي في العالم العربي، سوريا الأسد، لصالح الخصم الذي قاتلته على مدى سنوات على الأرض السورية دفاعا عن ذلك النظام: جبهة النصرة، قبل تحولها الى هيئة تحرير الشام.
صاحب هذه الخسارة الجسيمة خسارةٌ أخرى لا تقل جسامة أدت إلى تقويض حليفها الأشد ولاء وفاعلية في المنطقة، حزب الله اللبناني، إثر الهزيمة العسكرية التي تلقاها الحزب على يد إسرائيل، ومواجهته احتمالات جدية لنزع سلاحه، وهو المصير نفسه الذي يواجه حليفها الآخر، تنظيم حماس الفلسطيني الذي شن هجوم السابع من اكتوبر. في الوقت نفسه، يتلقى الحوثيون، الحليف اليمني الأعلى صخبا والأقل تأثيرا، ضربات إسرائيلية موجعة بين الحين والآخر.
في العراق فقط يبدو النفوذ الإيراني كما هو من دون تراجع، فحلفاء الجمهورية الإسلامية في البلد من فصائل مسلحة وجماعات سياسية، وفي مقدمتها الإطار التنسيقي الحاكم، ما تزال تقبض بقوة على مقاليد السلطة، كما أن دعمها لطهران ودفاعها عن مصالحها على حساب المصالح العراقية ما يزال كما هو. أقصى ما حصل هو الانحناء المعتاد أمام العاصفة الشديدة، التي مثلتها القوة العسكرية الإسرائيلية والضغوط الأميركية، كما برز في تجنب الفصائل التصعيد السياسي أو العسكري ضد القوات الأميركية في العراق أو رفع سلاحها ضد إسرائيل دفاعا عن طهران في حرب الإثني عشر يوما بين الطرفين في يونيو الماضي. في الحيزين العام والسياسي، يقدم العراق هذا السلوك على أنه دليل براغماتية فصائلية، وإحيانا يؤطر وطنيا بوصفه حرصا اختياريا على سلامة البلدـ ويستُبعد غالبا التفسير المنطقي والمعقول بخصوص عجز الفصائل عن فعل أي شيء ذي جدوى في تلك المواجهة وخوفها من العواقب الوخيمة إذا حاولت القيام بهذا الشيء.
ثمة رغبة عراقية عامة برزت في سياقات مختلفة، رسمية وشعبية، بخصوص أهمية تفكيك الفصائل المسلحة في داخل الحشد الشعبي وخارجه. كان التعبير الرسمي عن هذه الرغبة قرارات حكومية مهمة لكن لم تُنفذ، صدرت في عهد حكومتي حيدر العبادي وعادل عبد المهدي لممأسسة الحشد عبر إزالة الصفات الفصائلية والسياسية والحزبية عنه وتحويله إلى قوة عسكرية مهنية. دعمت الولايات المتحدة في حينها تلك القرارات لكنها لم تفعل شيئا لدفع الحكومة العراقية لتنفيذها أو مساعدتها، على الأقل، للتغلب على الضغوط التي أحبطت في آخر المطاف السعي الحكومي لمأسسة الحشد.
سيكون تعامل إيران مع نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية والماراثون السياسي الصعب الذي يعقب كل انتخابات لاختيار رئيس للوزراء، هو الاختبار الحقيقي الأول لبقاء النفوذ الإيراني في العراق على صلابته المعهودة.
منذ انتخابات عام 2010، بدأت إيران تلعب دورا مؤثرا على نحو متصاعد في ترتيب التحالفات السياسية التي تعقب الانتخابات العراقية وصولا الى اختيار رئيس الوزراء وكابينته الوزارية، مستفيدة من حقيقتين اثنتين مترابطتين: الأولى تقويض فكرة الفائز الانتخابي الأول الذي تفرزه الانتخابات ويُمنح أتوماتيكيا فرصة تشكيل الحكومة وعرضها للبرلمان للتصويت عليها في خلال فترة شهر. فبخلاف كل الانتخابات في الدول التي فيها تداول سلمي للسلطة، تُنتج الانتخابات العراقية مجموعة فائزين، من الحاصلين على مقاعد برلمانية، يتنافسون تاليا لتشكيل التحالف البرلماني الأكبر الذي يحق له تشكيل الحكومة ويُرشح رئيسها، وهو التنافس الذي غالبا ما يجري في ظروف جائرة باستخدام أدوات غير قانونية بينها المال السياسي والتهديد باستخدام ملفات قضائية على أساس تهم مفتعلة او حقيقية.
يُحسم هذا التنافس غير العادل دائما لصالح الائتلاف البرلماني الحاكم، كما ظهر هذا مرارا على مدى الأعوام العشرين الماضية. يُعد هذا الأمر تشويها بنيويا في معنى الانتخابات التنافسية ونتائجها البرلمانية، وقد نَتَجَ عن قرار مُسَيس على الأكثر أصدرته المحكمة الاتحادية في عام 2010، لحرمان الفائز الأول وقتها، السياسي الليبرالي، إياد علاوي، من فرصة تشكيل الحكومة، لصالح الخاسر وقتها رئيس الوزراء الإسلامي، نوري المالكي. وفسح قرار المحكمة المجال لتنافس مفتوح وشرس بين الأحزاب السياسية الحاصلة على مقاعد برلمانية.
الحقيقة الثانية، وقد تأسست على الحقيقة الأولى، أن الخلافات الشديدة بين هذه الأحزاب في تقسيم المناصب والحصول على النفوذ، خصوصا بين الإسلامية الشيعية المتحالفة مع ايران، فتحت الباب أمام طهران للتوسط بينها لإنضاج الصفقة النهائية التي تتضمن مراعاة توازنات كثيرة ومتداخلة وصولا إلى تحديد شخصية رئيس الوزراء. في سياق هذه العملية المعقدة كلها التي تستغرق عادة أشهرا مرهقة من زيارات مكوكية واجتماعات متواصلة يشوبها الترقب، تضع إيران كثيرا من حلفائها في مناصب حساسة وتَضمن أن يكون رئيس الوزراء ودودا نحوها ولا يهدد مصالحها.
كان اتفاق أربيل في عام 2010 الذي أنتج الحكومة الثانية للمالكي مثالا على هذه الصفقات. فعبر هذا الاتفاق الذي حلَّ انسدادا خطيرا وقتها، حصل الخاسر في الانتخابات، نوري المالكي، على التجديد الرئاسي في المنصب التنفيذي الأعلى مقابل حصول إيران على بعض المكاسب المهمة لها، مثل التزام المالكي بإخراج القوات الأميركية كاملة من العراق في نهاية عام 2011 (عادت هذه القوات بعد ذلك بثلاث سنوات بعد سقوط الموصل بطلب من الحكومة العراقية).
ومنذ آخر تدخل لواشنطن في حسم نتيجة الانتخابات العراقية في عام 2010، عندما دعمت إدارة الرئيس باراك أوباما على نحو خاطئ اتفاق أربيل، وبالتالي خيار التجديد في منصب رئاسة الوزراء للخاسر الانتخابي وقتها، نوري المالكي، تجنبت الولايات المتحدة استخدام نفوذها لمنع هذا التشويه البنيوي أو تصحيحه، الأمر الذي فسح المجال لإيران لاستخدام نفوذها في تشكيل الحكومات العراقية المتتابعة.
في غضون أيام قليلة قادمة، بعد إعلان نتيجة الانتخابات الحالية، سيكون على اللاعبين السياسيين المشاركين في هذه الانتخابات التعاطي مع التحدي نفسه: إنتاج الصفقة السياسية المطلوبة التي تتشكل عبرها الحكومة بما تتضمنه من اختيار رئيس للوزراء وتوزيع المناصب واقتسام النفوذ بين الجماعات السياسية “الفائزة” في الانتخابات. لم يسبق للقوى السياسية العراقية أن أنتجت مثل هذه الصفقة لوحدها، إذ كانت إيران، بحكم القبول السياسي الحزبي الشيعي بها كوسيط، وبسبب نفوذها المؤسساتي وما وراء المؤسساتي في البلد، هي الطرف الوحيد القادر على إنجاز مثل هذه الصفقة المعقدة التي تتضمن ترضيات كثيرة وتنازلات متبادلة وضغوط مؤثرة.
في ضوء تطورات ما بعد السابع من أكتوبر في المنطقة، وتراجع النفوذ الايراني الإقليمي والضغط الأميركي المتصاعد على العراق لإخراج نفسه من دائرة هذا النفوذ، تجد الجماعات السياسية العراقية المتنفذة نفسها أمام تحد فريد هذه المرة. يتعلق هذا التحدي بقدرتها على تطوير هذه المهارة الصعبة بسرعة وإنجاز الصفقة المطلوبة من دون اللجوء المعتاد لإيران – التي تنتظر بفارغ الصبر إحدى أهم فرصها لحماية نفوذها وتعزيزه – ومن دون أخذ الحاجات الإيرانية بنظر الاعتبار في تشكيل تفاصيل الصفقة نفسها. إذا فشلت هذه الجماعات في مواجهة هذا التحدي وتجاوزه ولجأت، بدلا من ذلك، إلى العادة القديمة الضارة باستدعاء الجمهورية الإسلامية للقيام بما برعت به على حساب المصلحة الوطنية العراقية، ستكون دلالة هذا أن النفوذ الإيراني في البلد باق وربما في طور مزيد من التوسع، بما يتضمنه ذلك من الزيادة المتوقعة في مأسسة وجود الفصائل المسلحة التي تصر أميركا على تفكيكها.
يبعث كل هذا رسالة سلبية كاشفة عن عجز الجماعات السياسية العراقية عن فهم العواقب الخطيرة التي تنتظر العراق جراء استمرار النفوذ الإيراني في البلد، والسعي لتجنب مثل هذه العواقب. لكن الاحتمال الآخر هو أن تذهب الأشياء بالاتجاه المعاكس، إذا قررت الجماعات السياسية العراقية المعنية الاستغناء عن التدخل الإيراني في تشكيل الحكومة، والاعتماد على نفسها في إنتاج صفقة كبرى مختلفة عن الصفقات التي اعتادت إيران على إنتاجها في العراق. يدعم هذا الاحتمال حقيقة أن قوى سياسية داخل الإطار التنسيقي نفسه، بخلاف القوى الميليشياوية فيه، تفضل خيار الممأسسة الجدية للحشد ويمكنها الاستفادة من الضغط الأميركي لتقوية موقفها بهذا الصدد. ثم هناك موقف المرجعية الدينية في النجف الذي يزداد وضوحا في دعمه لحصر السلاح بيد الدولة، وهو الموقف العام الذي يُترجم عادةً بضرورة تفكيك الفصائل المسلحة.
تحتاج مثل هذه الصفقة أن تراعي المصالح العراقية أولا ما يعنى ضرورة أن تتضمن تحجيما ملموسا لنفوذ الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وهو المطلب الأميركي المُلِح في هذه المرحلة، الذي قد يؤدي عدم إنفاذه إلى إيقاع عقوبات اقتصادية ومالية أميركية على العراق بوصفه إمتداداً أقليمياً للنفوذ الإيراني في بلد يُفترض أنه حليف للولايات المتحدة الأميركية. في الواقع، ثمة إدراك واسع بين الساسة العراقيين المتنفذين بخصوص حراجة الموقف الذي يواجهه البلد بهذا الصدد. لكن يبقى السؤال المهم هنا هو قدرتهم على تحويل هذا الإدراك الذهني إلى خطوات سياسية ملموسة ومقنعة تظهر نتائجها الواضحة في طريقة تشكيل الحكومة المقبلة والأولويات التي ينبغي أن تتبناها هذه الحكومة.
ستكشف الأسابيع القليلة المقبلة عن الخيار الذي سيتبعه هؤلاء الساسة، سواء لجهة البقاء على ما هو معتاد ومُضر، أو تبني نهج جديد يُساهم في إبعاد العراق عن السطوة الإيرانية. يحتاج هذا التبني الصحيح والضروري للمصالح العراقية شجاعة أخلاقية وجرأة سياسية لم يُعرَف بها كثيرا هؤلاء الساسة. لكن عواقب الفشل هذه المرة ستكون على الأكثر وخيمة عليهم وعلى البلد الذي يحكمونه.
